خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ
٤
-محمد

تيسير التفسير

{ فإِذا لقِيتُم الَّذين كَفَروا } إذا كان صلاح المؤمنين وفوزهم، وضلال الكفرة وخسرانهم، مما يوجب ترتب الأحكام عليهم، كل بما يليق به، فاذا لقيتم الكفرة فى المحاربة الى قوله: { بعضكم ببعض } ورتب على الفريق الآخر قوله: { والذين قتلوا } الخ وبدأ بالذين كفروا، لأن التكليف يكون بمعالجتهم، وشأن الخلق، والدنيا التكليف، وباتباعه يحصل الدين والدنيا، والعبادة، ودون ذلك ما هو اخبار بالثواب على ذلك، فأخر ذكر الثواب، واللقاء والملاقاة، أو اللقاء المعبر عن الحرب.
{ فَضَرب الرقاب } فاضربوا الرقاب منهم أولهم، أو رقابهم ضربا، فحذف اضربوا، وأضيف ضرب للمفعول، ومثل هذا المصدر نائبا عن عامله، ولم يرد فائدة عليه، فليس فيه توكيد ولا بيان نوع باضافته إلا بحسب ظاهر اللفظ، لأنه ترجمة عن نصب المضاف اليه بالعامل المحذوف قبل الحذف، والتأخير خلافا لمن ادعى التأكيد، وضرب الرقاب كناية عن القتل مطلقا، وخصت الأعناق بالذكر لأنه أشنع قتله، وأسرع للموت، إذا أطير الرأس، أو بقى ملصقا بقليل، مائلا وكأنه غير صورة آدمى، وفى الرأس مجمع حواس الانسان، وهكذا ينبغى أن يكون القتل، وفيه تشجيع المؤمنين الى هذه القتلة بحسب الامكان.
{ حتَّى إذا أثْخنْتُموهم } أفشلتموهم بشدة القتل وكثرته افاشالا، كاثخان المائع عن الحركة بضبطه فى اناء، ومنعه عن الحركة، يقال ثخن المائع أى سكن عن الحركة { فشدُّوا الوثّاق } فاربطوا من بقى منهم فى الحبال، وجوامع الحديد، ربطا شديدا، والباقى إما مقبوض عليه وهو صحيح، أو ضعيف بالجروح، أو ملقى على الأرض لا يستطيع النهوض، والوثاق ما يربط به أو يحبس به من حبل أو جامعة { فإمَّا منّاً بعْدُ وإمَّا فداءً } إما تمنون منا عليهم بعد الشد، وإما تفادون فداء، والمفاداة هنا قبول الفداء أو طلبه، ولا قتل بعد الإثخان، بل يمن عليهم بالاطلاق أو بالاستعباد، وترك القتل، أو بالفداء، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى فى سورة براءة، وهى آخر ما نزل فى هذا الشأن:
" { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } " [التوبة: 5] وقوله تعالى: " { فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم } " [الأنفال: 57] الآية، قال مجاهد: ليس اليوم مَن ولا فداء، لكن القتل أو الاسلام.
وقيل: آية براءة فى غير الأسرى، بدليل أنه يجوز الاسترقاق، قيل: اما الاسلام واما القتل لا فداءَ، ولا أسر، وجاء الحديث بما يفيد أن جريح المشركين وهاربهم يتبع فيقتل، ولو لم يكن له ملجأ، ولا من يستعينون به، وان جريح الموحدين الذين حل قتالهم لا يقتل، وهاربهم لا يتبع، ان لم يكن له ملجأ، وقيل: المن والفداء فى أسرى بدر فقط، وان الآية فيهم، وأما غير بدر فلا فداء ولا أسر، بل القتل، وقيل: يجوز الفداء ويجوز القتل، وقيل بظاهر الآية اما فداء واما منّ لا نسخ فى ذلك، وبه قال الحسن وابن عمر.
كما روى أن الحجاج أتى بأسرى فدفع لابن عمر واحدا يقتله، وقال: ما أمرنا بهذا وتلى الآية، ويدل لجواز القتل أنه صلى الله عليه وسلم قتل عقبه بن أبى معيط، وطعيمة بن عدى، والنضر بن الحارث بعد القبض عليهم، ومذهبنا جواز قتل الأسير وهو أولى لدفع شره واسترقاقه، ومفاداته لأن فيهما نفعا للاسلام، واطلاقه بحسب رأى الامام، وعليه الأكثرون، ومن المن أن يسترق، ومنه أن يترك على اعطاء الجزية ان كان كتابيا أو مجوسيا، والقول بالنسخ قول ابن عباس والضحاك، وقتادة ومجاهد، ويكاد يجمع عليه، ولكن ان أسلم الأسير أو الجريح لم يقتل، ويجوز أن يستعبد، لأن العبد اذا أسلم جاز بيعه وهو باق على العبودية، واذا جاز استعباده جاز مفاداته، يتخلص بها عن الاسترقاق إلا مشركى العرب، والمرتدين منهم، فاما أن يسلموا أو يقتلوا، ولا يقتل الرجل أسيره أو أسير غيره بلا إذن من الامام، والا عزره الامام ان وقع على خلاف مقصود الامام، لكن لا ضمان عليه، إلا إن قتله خوف أن يضره فلا ضمان ولا تعزير، ومن أسلم قبل الأسر خلى سبيله وهو حر مسلم.
ومن الخطأ الفاحش الذى لا يخفى على العاقل ما نسب ليعقوب المنصور إذ منح الله عز وجل له النصر فى أندلس على أدفنوش وجنوده، وهزمهم الله هزيمة عظيمة وقتل منهم مائة ألف، وأسر أربعة وعشرين ألفا، وأطلقهم كلهم، وأدفنوش من الجلالقة، وهم المسمون الآن أسبنيول، ولا يفادى بالأسير مسلم فى رواية عن أبى حنيفة، لأن فى رد الأسير المشرك اليهم، فيكون حربا مضرة لجميع المسلمين، والصحيح الجواز، وهو رواية عنه، وهو قول محمد وأبى يوسف والشافعى ومالك وأحمد، لحرمة المسلم وتخليصه من أهل الشرك، وتمكينه من عبادة الله، ومضرة ذلك المشرك للمسلمين غير لازمة لعلها لا تقع، وأيضا فدى صلى الله عليه وسلم رجلين مسلمين بأسير كافر كما فى مسلم وأبى داود والترمذى وغيرهم، عن عمران بن حصين، وتجوز المفاداة بالنساء على الصحيح، كما روى أنه صلى الله عليه وسلم أمَّر الصديق رضى الله عنه على غزوة فأعطى من الغنيمة سلمة أمرأة، فسأله صلى الله عليه وسلم أن يهبها له، ولم يفعل وقال: إنها أعجبتنى يا رسول الله، ما كشفت لها ثوبا، ولقيه غدا فى السوق فقال: "هبنى امرأة" فقال: هى لك يا رسول الله والله ما كشفت لها ثوبا ففدى بها رجالا مسلمين من مكة، وفى المفاداة بالصبى قولان.
ويجوز فداء مسلم بأسير مسلم ان طابت نفسه وأمن على ايمانه أن لا يرتد، وقيل: لا، ويجوز فداء مسلم بمال لعظم حرمته، ولا عبرة بما يتوقع من تقوى المشركين بذلك المال، ولا يحسن اطلاق الأسير المشرك الى أهله بلا عرض، ولا رجاء مصلحة فى ذلك للاسلام، وأطلق صلى الله عليه وسلم جماعة من أسرى بدر منهم: أبو العاصى بن أبى الربيع، وأجاز فداء بنته صلى الله عليه وسلم لأبى العاصى، وقد كان زوجها بقلادة أعطتها اياها خديجة رضى الله عنهما، وسألهم صلى الله عليه وسلم أن يطلقوه ويردوا لها قلادتها ففعلوا فرحين.
وأطلق صلى الله عليه وسلم تمامة بن أثال بن النعمان، وأسلم بعد، كما فى مسلم، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد، فأتوا بتمامة وهو رجل من بنى حنيفة فربطوه فى المسجد على سارية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما عندك يا تمامة؟ فقال: خير إن تقتل تقتل ذا دم، وان تنعم تنعم على شاكر، وإن أردت المال فلك ما تريد، وقال له مثل ذلك من الغد، فأجاب بذلكن وكذا فى الثالث، وقال: أطلقوا تمامة" فأطلقوه، وذهب الى نخل قريب من المسجد، فاغتسل وجاء فقال أشهد ان لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، ولا وجه أحب إليَّ من وجهك، بعد أن كان أبغض الوجوه إليَّ، ولا دين أحبُّ إليَّ من دينك بعد أن كان أبغض الأديان إليَّ، ولا بلد أحب إليَّ من بلدك بعد أن كان أبغض البلاد إليَّ يا رسول الله أخذتني خيلك، وأنا أريد العمرة، فأمره أن يعتمر فقال له أهل مكة: أصبوت؟ فقال: لا بل أسلمت، والله لا يأتيكم حبة حنطة من اليمامة حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، اسرت ثقيف مسلمين وفداهما صلى الله عليه بكافرين، وقال صلى الله عليه وسلم: "لو كان مطعم بن عدي حياً وسئلت إطلاقه لفعلت" فهذه اجازة للاطلاق بلا عوض، ويجوز الفداء ولو بعد قسمة.
{ حتى تضَع الحربُ أوْزارها } حتى تنقضى الحرب، وحتى فيها غاية راجعة الى ضرب الرقاب، أو إلى الشد أو الى المن والفداء أو اليهما أو الى الكل بمعنى امتداد ضرب الرقاب وشد الوثاق والمن أو الفداء، أو إليهما أو الى الكل بمعنى امتداد ضرب الرقاب، وشد الوثاق، والمن والفداء، جاز حتى تزول شوكة المشركين، أو ينزل عيسى عليه السلام، ويخرج يأجوج ومأجوج، قال رجل: يا رسول الله ان الخيل سيبت، ووضع السلاح، وزعموا أن قد وضعت الحرب أوزارها، فقال صلى الله عليه وسلم:
"كذبوا فالآن جاء القتال ولا تزال طائفة من أمتي يقاتلون في سبيل الله، ولا يضرهم من ناوأهم حتى تقوم الساعة، ولا تزال الخيل معقوداً في نواصيها الخير حتى تقوم الساعة، ولا تضع الحرب أوزارها حتى يخرج يأجوج ومأجوج" وأل للجنس، وان جعلنا الحرب حرب بدر فأل للعهد، وأوزار الحرب آلاتها من السلاح وغيره، وأصل الوزر الحمل أو الثقل استعير لآلات الحرب، أو شبه الحرب بانسان حامل لشىء ثقيل، ورمز لذلك باثبات ما هو ثقيل على التخييل أو ذلك استعارة تمثيلية، واضيفت الأوزار للحرب تجوزا فى النسبة الاضافية، وفى ذلك تغليب على حيوان الحرب كالخيل، وما يحتاج اليه فيها من الابل وغيرها، وقيل: حتى يضع أهل الحرب أوزارها أى أسلحتها.
وقيل: الحرب اسم جمع مثل الركب، أى المحاربون المسلمون، وقيل المحاربون المشركون، وأوزارهم ذنوبهم، ووضعها تركها بالتوبة والايمان، وذلك ضعيف، يضعف ما قيل: ان الأوزار الشرك والمعاصى، وتضع بمعنى تترك، واسناد الترك اليها مجازا، ويقدر مضاف أى حتى يضع أهل الحرب أوزارها، والمعنى حتى تضع حربكم أوزار المشركين، بأن يسلموا أويسالموا، ووجه الضعف أنه لا يحسن اضافة الذنوب الى الحرب.
{ ذلَك } المذكور من ضرب الرقاب، وشد الوثاق، والمن والفداء الاثخان، خبر لمحذوف أى الأمر ذلك، أو مفعول أى ألزموا ذلك، فان الحكمة او المشيئة اقتضت تكليفهم به { ولو يشاء الله } الانتصار لكم بلا قتال { لانْتَصر } انتقم لكم { منْهُم } بخسف أو رجفة أو غرق أو موت جارف { ولكِن ليَبْلوا } أى أمركم بالقتال ليبلوا { بعضَكُم ببعضٍ } يبلو المؤمنين بجهاد الكافرين لنيل الأجر، والكافرين بالمؤمنين ليقتلهم انتقاماً بهم، وليتعظ بعض، ويرتدع آخرون.
{ والَّذين قُتلِوا في سَبِيل الله } الكفار أراد العموم، فالذين كاسم الشرط، ولذا قرن خبره بالفاء كما قال: { فَلَنْ يُضل أعمالهم } لن يضيعها، بل يثيبهم عليها، وهى قتالهم وسائر أعمالهم الصالحات، والمراد اعتبارها، وأن لا يتركها، وأما نفس الثواب فقد ذكره بعد، وذلك بالعموم أولا وبالذات، من نزلت فيهم إذ نزلت فى يوم أحد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فى الشعب، وقد فشت فيهم الجراحات والقتل، حتى: قيل: انه قتل من المسلمين سبعون، وأسر سبعون، كما فعل بهم المسلمون يوم بدر، ونادوا على هبل، ونادى المسلمون: الله أعلى وأجلّ، ونادوا: يوم بيوم بدر، والحرب سجال لنا عزّى ولا عزّ لكم، أرادوا بذكرها تغييظ المسلمين، والاشعار بالثبات على الكفر، والتلويح بأنها نصرتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" الله مولانا ولا مولى لكم قتلانا أحياء مرزوقون وقتلاكم في النار يعذبون فالقتلى مختلفة" رواه الطبرى وغيره.