خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
١
-الحجرات

تيسير التفسير

{ يا أيُّها الَّذين آمنُوا لا تُقدِّمُوا بيْن يَدي الله ورسُولِه } بدأ السورة بالرحمة ترغيباً فيها، وترجية للمذنبين، ليتوبوا، وبدأ بعد الرحمة بالنداء اشارة الى عظمة ما نودوا اليه، ليزدادوا اعتناء به، أن يجتهد فيما دعى الله، عن ابن مسعود: كل { يا أيها الذين آمنوا } فى المدينة وكل: " { يا أيُّها الناس } " [الحجرات: 13] فى مكة، قلنا: قد يتخلف ذلك، وتقدم متعد الى مفعول واحد بنفسه، والى الآخر بعلى تقول: قدمت زيدا على عمر، ولكن استعمل هنا على طريق عدم تعلق الغرض بالمفعول، فنزل منزلة اللازم كقولك: الله يعطى ويمنع، وينفع ويضر، وقوله تعالى: " { يُحيي ويُميت } " [الدخان: 8] فالمعنى لا تفعلوا التقديم، ولا سبيل لكم اليه، فهو سلب لحقيقة التقديم، فيلزم منه أن لا مقدَّم ولا مقدَّم عليه بفتح الدالين أو هو متعد الى مفعول به مقصود حذف للعموم، أى لا تقدموا أمرا ما من الأمور على الآخر، وهذا أكثر استعمالا، وفيه السلامة من تنزيل المتعدى منزلة اللازم الذى هو خلاف الأصل لكل فيه الحذف الذى هو خلاف الأصل.
وعندي الأول وهو تنزيله منزلة اللازم أولى وهو كثير، ولو كان الثانى أكثر وهو الحذف لأن أبلغية الكلام بسلب التقديم البتة أقوى من أبلغيته بحذف المفعول على طريق قصده للعموم، والوجهان من معنى التقديم، ويجوز أن يكون من معنى التقدم بضم الدال وهو لازم كقولك: مقدمة الجيش، ومقدمة جناحى الطائر، ويدل له قراءة ابن عباس، وأبى حيوة، والضحاك، ويعقوب وابن مقسم بفتح التاء والدال، والأصل عليه لا تتقدموا فحذفت احدى التاءين، ولفظ، بين مجاز مرسل أصلى، لأن حقيقته ما بين اليد اليمنى واليسرى، واستعمل فى معنى ما امر الله تعالى به، وما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يكون الكلام استعارة تمثيلية، شبه اثبات الحكم من غير اقتداء بالله ورسوله، لجامع البشاعة بتقدم الخادم بين يدى سيده فى السير بلا أمر منه، حيث لا مصلحة أى لا تجزموا بأمر قبل حكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فيه، وذلك تشبيه للمقول بالمحسوس.
ويجوز أن يكون المراد بين يدى الرسول، وذكر لفظ الجلالة قبل الرسول تعظيما له صلى الله عليه وسلم ولشأنه، بأن مقوله مقول الله عز وجل، فكيف يعرض عنه، قال ابن عباس: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة، وعنه: نهوا أن تكلموا بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمروا أن يصغوا فهذا فى التلفظ وما مرّ فى اثبات الأحكام بدون الله ورسوله كما قال مجاهد لا تفتئتوا على الله ورسوله حتى يقضى الله، وروى حتى يقصه الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وسواء فى ذلك قراءة التقديم وقراءة التقدم، أو قراءة التقدم على التشبيه لجعلتهم فى الحكم، أو التلفظ بعجلة المسافر من سفره بجامع الرغبة، وقدر رغبوا فى الحكم أو القول.
والآية على عموم لفظها ولو خص سببب النزول كما أخرج البخارى، عن عبد الله بن الزبير: قدم وفد من تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر رضى الله عنه: أمر القعقاع بن معبد بن زرارة، وقال عمر رضى الله عنه: بل أمر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر رضى الله عنه: ما أردت الا خلافى، فقال عمر رضى الله عنه: ما أردت خلافك، فتماريا حتى علت أصواتهما، فأنزل الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا } الآية.
وعن جابر بن عبد الله: الآية فى قوم ذبحوا الضحايا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهوا عن ذلك وأمروا أن يعيدوا، وفى الترمذى، عن البراء بن عازب: خطبنا النبى صلى الله عليه وسلم يوم النحر وقال:
"إنَّ أول ما نبدأ فى يومنا هذا أن نُصلي ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل أن يصلي فإنَّما هو لحم عجله لأهله" وليس من النسك فى شىء، وكذا فى البخارى ومسلم إلا أنهما لم يذكرا قوله: خطبنا النبى صلى الله عليه وسلم يوم النحر، وفى أبى داود والترمذى، عن عمار بن ياسر: من صام فى اليوم يشك فيه فقد عصى أبا القاسم.
وأخرج الطبرى، عن الحسن: ذبح ناس قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر، فأمرهم النبى صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا ذبحا، فأنزل الله تعالى: { يا أيها الذين أمنوا لا تقدموا } الآية أى تصديا له فى الأمر باعادة الذبح، ومراد الحسن، أنه نزل: { بسم الله الرحمن الرحيم * يا أيُّها الذين آمنوا لا تقدموا } وكذا فى حديث البخارى، وما يأتى وغيره اذ اذكر الراوى ما هو أول السورة بعد البسملة أنه نزل فى كذا، ولم يذكر البسملة، أو قال نزلت السورة وذكرها بأولها لا باسم السورة، ولم يذكر البسلمة، فالمراد أنه نزل: لبسم الرحمن الرحيم وما بعده، ولكن لم يذكروها لاشتراك السور فيها، وفى رواية ذبحوا قبل الصلاة، فأمرهم الخ.
والذبح قبل الصلاة ذبح قبله صلى الله عليه وسلم، كما فى الرواية الأولى، لا يذبح قبلها، فهى ذبيحة لا تجزى عندنا، وعند أبى حنيفة كما تراه فى الحديثين، وكما روى البخارى ومسلم والترمذى، وأبو داود والنسائى، عن البراء:
"ذبح بردة بن دينار قبل الصلاة، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: ابدلها قال: يا رسول الله ليس عندى إلا جذعة، فقال صلى الله عليه وسلم: اجعلها مكانها ولن تجزي عن أحد بعدك" وعنه صلى الله عليه وسلم: "من ذبح قبل الصلاة فقد خالف سنتنا، وإنما ذبيحته جزورة قدمها لأهله" .
وعن الحسن، كثرت الوفود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثروا السؤال يعنى يقولون: أيجوز كذا، أيجوز كذا لو أنزل الوحى فى كذا لكان كذا، فنزلت الآية لا تبتدءوا بالسؤال، وظاهر كلام الحسن هذا مع ما تقدم عنه أن الآية نزلت فى جميع ما يروى أو يأتى بعد وقوعه، ومجموعه سبب النزول لا خصوص ما يذكر رواة الحديث.
كما روى أنه بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية سبعين رجلا الى تهامة، وأمَّر عليهم المنذر بن عمرو الساعدى، فقتلهم بنو عامر، وعليهم عامر بن الطفيل الا ثلاثة نجوا فلقوا رجلين من بنى سليم قرب المدنية فانتسبا لهم الى بنى عامر، لأنهم أعز من سليم فقتولهم فسلبوهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"بئسما صنعتم الرجلان من سليم كانا من أهل العهد وما سلبتم عنهم من ثياب هو ما كسوتهما" فأعطى صلى الله عليه وسلم ورثتهما ديتهما، ونزلت الآية.
وعن عائشة رضى الله عنهما: كان قوم يصومون قبله صلى الله عليه وسلم، فنزلت، أى يصومون يوم الشك من شعبان، أو يومين من آخره، أو مثل ذلك قبل رجب، أو قبل شعبان، اذ رأوه يصوم فيهما، ودخل مسروق على عائشة يوم الشك آخر شعبان، فأمرت جارية أن تسقيه عسلا فقال: إنى صائم، فقالت رضى الله عنها، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم هذا اليوم، وفيه نزل: { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا } الآية أى فيه وفى غيره، أو أرادت لا يخرج عن الآية، أو هذا مثل قول ابن مسعود للتى قالت له: قرأت القرآن وما وجدت فيه ما قلت من لعن الواشمة ان قرأته فقد وجدته، ألا ترين قوله تعالى:
" { وما آتاكم الرسول فخذوه } " [الحشر: 7] الخ.
وأدخل بعض فى الآية المشى قدامه صلى الله عليه وسلم، ويلتحق بما قال رسول الله ما يقول المجتهد المتأهل للاجتهاد، وقد أمر عبد المؤمن بتحريق كتب الفروع، ورد الناس الى قراءة كتب الحديث، واستنباط الأحكام منها، وكتب بذلك، وهو فى المغرب الأقصى الى جميع طلبة العلم من بلاد أندلس والعدوة، قلت: ذلك حسن لولا أنه لا يقدر الطلبة كلهم على الاستنباط، وليس يوجد فى كل قطر طالب يستنبط فقد يتعطل أمر العامة بذلك، وليس يوجد فى كل موطن مجتهد، وكذا أمر بنوه من بعده الناس بأن تؤخذ الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة مباشرة على طريق الاجتهاد المطلق، وحرقوا كثيراً من كتب الفروع الحادثة، واستحسنه بعض علماء عصرهم، ومنهم ابن العربى استحسنه.
{ إنَّ اللَّهَ سَميعٌ } لأقوالكم وأقوال غيركم { عليمٌ } بكل شىء من الأفعال والاعتقادات، فاحذروه فيما تقولون وما تفعلون.