خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ
٢
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ
٣
-الحجرات

تيسير التفسير

{ يا أيُّها الَّذين آمنُوا لا ترفعُوا أصْواتكُم فَوق صَوت النبِّي } أعاد النداء مع قرب النداء قبله، للتأكيد فى النهى عن رفع الصوت فوق صوته صلى الله عليه وسلم، وللتنبيه على أن تحريم ذلك الرفع أمر آخر عظيم يستقل بالاعتناء به، وذكر وجوب أن لا يساووا بأصواتهم صوته صلى الله عليه وسلم، كما يفعل بعضهم ببعض، بل يخفضوا أصواتهم عن صوته وجوبا فى قوله عز وجل: { ولا تَجْهروا له بالقَول كجَهْر بعْضِكُم لبعْضٍ } عقب كلامه ولا فى سكوته، بل دونه كمن يكلم جبارا مهيبا احتراما له، وان خفض صوته فاخفضوا انتم تحت خفضه، وان جهر كثيرا أكثر مما يجهر فى عادته فلا تقتصروا على جهره المعتاد، بل اخفضوا تحت جهره المعتاد، وقي: قوله عز وجل: { لا ترفعوا } فيما اذا نطق ونطقتم، وقوله: { لا تجهروا } فيما اذا سكت وتكلمتم.
قال أبو هريرة عن الصديق، بعد نزول ذلك: والذى أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك الا كأخى السرار حتى القى الله تعالى، وفى رواية: يا رسول الله لا أكلمك الا السرار، أو أخا السرار حتى ألقى الله تعالى، وكان رضى الله عنه اذا قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوفود، أرسل اليهم من يعلمهم كيف يكلمونه، صلى الله عليه وسلم، وكيف يسملون، ويأمرهم بالسكينة والوقار، وعن عبد الله بن الزبير: كان عمر اذا تكلم عند النبى صلى الله عليه وسلم لم يسمع كلامه حتى يستفهمه، وذلك كله حذر من الآية، وقيل: المعنى لا تقولوا يا محمد، كما ينادى بعضكم بعضا باسمه، بل قولوا يا نبى الله، أو يا رسول الله، وبحث بأنه لو كان المعنى هذا لقال: لا تخاطبوه كخطاب بعضكم لبعض، ولا يذكر الجهر، وهو ظاهر، وما ذكر من الجهر المنهى عنه فوق صوته، انما هو إذا لم يحتج الى الرفع، أما اذا احتيج اليه فيجوز كما اذا دعت ضرورة، وكما اذا كان بأمره صلى الله عليه وسلم، كما امر العباس يوم حنين أن ينادى: يا أصحاب السمرة، فنادى بأعلى صوته، نادى لغارة أتت يا صباحاه، فأسقطت الحوامل، قيل: يزجر السبع عن الغنم، فتنفق مرارته.
وسئل ابنه عبد الله بن عباس لم لا تنفتق الغنم، فقال: انها الفت صوته، وأيضا انما يشدد الجهر فى الموضع الذى يحتاج الى ذلك، وما اذ دعا الى الرفع والجهر حال قتال فى حضرته صلى الله عليه وسلم، أو جدال كفار، أو منافق، أو ارهاب عدو، او نحو ذلك مما ليس اهانة له صلى الله عليه وسلم، والنهى عن الجهر والرفع محرمان فى حضرته ولو غير خطاب له الا لداع، كما مثلت قبل، وكما اذا كان داخل البيت ونادوه من خارج فى بعيد من الباب، او قريب فيجهروا له: يا رسول الله، أو يا نبى الله، ويعترض عليه بقوله عز وجل:
" { ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً } " [الحجرات: 5].
{ أنْ تَحبَط أعْمالكُم } أى كراهة ان تحبط أعمالكم الصالحة بتقدير مضاف، أو لئلا تحبط أعمالكم بتقدير اللام، ولا النافية، وهذه اللام المقدر لام العاقبة، لأنهم ليسوا يجهرون أو يرفعون قصدا لحصول الحبوط، بل عاقبة الجهر، والرفع الحبوط، ويجوز تقدير لام التعليل ولا النافية، فيؤديان ما يؤدى تقدير كراهة من المعنى، ولام العاقبة متعلقة بتجهروا، ويقدر مثله لترفعوا، وأما كراهة ولام التعليل فمتعلقان بأنهاكم، أو نهيتكم عن الرفع والجهر لئلا تحبط أعمالكم.
{ وأنتْم لا تَشْعُرون } الجملة حال من أعمال، والمفعول محذوف، أى لا تشعرون انها أى أعمالكم محبطة، والآية دليل على أن الكبائر محبطة للأعمال الصالحة، كما يحبطها الشرك، فلو جهر له صلى الله عليه وسلم أحد أو رفع صوته بعد نزول الآية جهالة بلا قَصْد إيذاءً أو زلة بلا قصد ايذاء لم يكن شركا بل كبيرة دون الشرك تحبط العمل، يحتمل أن المعى أنكم لا تعلمون أنها محبطة، ولو سمعتم النهى فهذه فائدة ذكر لا تشعرون، ولا حاجة الى دعوى أن الاحباط بلا قصد الايذاء منزل منزلة قصد الايذاء، وقصده شرك، إذ لا دليل على ذلك.
ولما نزلت الآية احتبس ثابت بن قيس فى بيته، وأغلق عليه بابه، وطفق يبكى، فقال صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ:
"ما شأن ثابت؟ وهل مرض؟ فقال: إنه جاري وما سمعت عنه مرضاً، فقال له سعد: ما شأنك؟ قال: نزلت الآية، وقد علمتم أني أرفعكم صوتاً على رسول الله عليه وسلم فأنا من أهل النار، فأخبره صلى الله عليه وسلم سعد بما قال ثابت، فقال صلى الله عليه وسلم: بل هو من أهل الجنة" رواه البخارى ومسلم، وفى رواية: فكنا نراه رجلاً من أهل الجنة يمشي بين أظهرنا فأرسل إليه هذه الآية، فقال: "ما شأنك؟ فقال: يا رسول الله أنزل الله عليك هذه الآية، وأنا شديد الصوت فأخاف أن يكون قد حبط عملي، فقال صلى الله عليه وسلم: بل تعيش بخير وتموت بخير ولست ممن يحبط عمله" ولا ينافى قوله: فأنا من أهل النار قوله: أخاف، لأن مراده بأنه من أهل النار الظن لا الجزم أو أراد أنى من أهلها، وعبر عن هذا الجزم بالخوف تفننا فى العبارة.
وعلى كل حال خاف بعد نزول الآية عما صدر منه من الجهر والرفع، قبل نزولها لغلبة الخوف، أو لظنه أنه مؤاخذ بما قبل نزولها، مع أنه لا مؤاخذة بما قبل نزولها، مع أنه لا قصد له فى الاهانة، بل الجهر طبع له كما هو شأن الأصم.
ويروى: أنه أمر زوجه جميلة بنت عبد الله بن أبى بن سلول أن تسمر عليه باب فرشه، على أن لا يخرج حتى يموت أو يرضى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبر صلى الله عليه وسلم فناداه فقال:
"مالك تبكى؟ فقال: يا رسول الله إني صيت أخاف أن تأكلني النار لهذه الآية، فقال صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تعيش حميداً وتقتل شهيداً، وتدخل الجنة؟" فقال: رضيت ببشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أرفع صوتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدا، قال أنس: فكنا ننظر الى رجل من اهل الجنة يمشى بين أيدينا.
وشهد حرب اليمامة لمسيلمة الكذاب، وانهزمت طائفة هو فيهم مع سالم مولى حذيفة، فقال: تبّاً لهؤلاء، ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل قتالنا هذا، وثبت حتى قتل، وعليه درع فقال فى المنام لصحابى: ان فلانا نزع درعى وهو فى ناحية من العسكر عند فرس يستن فى طيله وقد وضع عليه برمته، فأخبر خالدا ليسترده وأت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقل له: إن على دينا حتى يقضيه، وفلان من رقيقى عتيق، فاسترد خالد الدرع، وأخبر خالد الصديق، فانفذ وصيته، حكم بعتق العبد، وانفذ دينه،قال أنس: لا أعلم وصيةٌ من ميت أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه، وقال: يا رسول الله لا أرفع صوتى أبدا عليك، فقيل عنه: قد يسر الله له ترك هذه العادة.
واعلم أنه لا يرفع الصوت ولا يجهر عند قبره صلى الله عليه وسلم، لأنه حى، ولا عند قراءة حديثه احتراما له، ومن ذلك أن لا يستدبر قبره زائره بل يذهب على جنب، ولما نزل ذلك كان عمر وثابت بن قيس يغضان أصواتهما جدا، وكذا غيرهما فنزل قوله تعالى:
{ إنَّ الَّذين يغُضُّون أصْواتهم عنْد رسُول الله } مدح لمن غضوا أصواتهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نزول الآية، والمضارع لحكاية الحال الماضية المستمرة قبل النزول، ومعلوم أنهم يستمرون على الغض بعد نزولها، وذل للأدب معه صلى الله عليه وسلم، وما كان بعد نزولها، فلذلك ولئلا يخالفوا الآية، أو المراد مطلق من يغض بقطع النظر عما قبل النزول أو بعده، ويضعف التفسير بما بعده، وعليه فذلك إما مدح لقوم غضوا بعد النزول، فالمضارع للحكاية أيضا، وإما حض على أن يغضوا فيتصفوا بما فى قوله عز وجل: { أولئك } إشارة البعد مع التقرب العهد تفخيم، وقد قيل: المراد أبو بكر وعمر، وثابت بن قيس: كما روى ابن مردويه عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم لما نزلت الآية قال: "منهم ثابت بن قيس بن شماس" والآية على العموم.
{ الذَّين امْتَحن اللَّهُ قلُوبهم اللتَّقْوى } أدبها وجعلها قابلة للتقوى، فالامتحان التمرين، والله منزه عنها، فالمراد لازمه على التجوز الارسالى الاصلى، واشتق منه امتحن على التجوز الارسالى التبعى، ومع ذلك، فاسناد التمرين المعبر عنه بالامتحان الى الله مجاز عقلى وحقيقته لأولئك المؤمنين.
وحاصل المعنى: امتحنوا قلوبهم للتقوى، بتمكين الله عز وجل لهم، وزعم بعض أن الامتحان مجاز عن الصبر لعلاقة اللزوم، اى أنهم صبروا على التقوى أقوياء على مشاقها، والصواب أن يقال مجاز عن التصيير، وقيل: لامتحان المعرفة اطلاقا للسبب على المسبب، أى عرف الله قلوبهم لتقوى، لجواز اطلاق معنى المعرفة على الله تعالى، واختلف فيه بلفظ المعرفة، واللام صلة لامتحنَ، أو أريد بالامتحان الضرب بالمحن، فتكون اللام للتعليل، أو أريد به اخلاص الله تعالى قلوبهم للتقوى، وهو قول مجاهد، وأبى بن كعب، وأبى مسلم، والامتحان مستعار من امتحان الذهب بمعنى تجريبه بالنار، واخراج خبثه.
{ لَهُم مغْفرةٌ } عظيمة لذنوبهم فى الآخرة { وأجْرٌ عظيمٌ } هو الجنة وتوابعها قبلها، وبعد دخولها على غض الصوت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسائر أعمالهم الصالحات، والجملة خبر ثان لإن.