خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ
٤
-الحجرات

تيسير التفسير

{ إنَّ الَّذين يُنادونَكَ } المضارع لحكاية الحال الماضية لغرابتها، لأن النداء من وراء الحجرات متقدم على نزول هذه الآية، لكنه حكى بالمضارع الذى هو للحال استحضارا له، كأنه وقع النداء حال النزول، والمنادون وفد تميم سبعون رجلا، أو ثمانون منهم الزبرقان بن بدر، وعطارد بن حاجب بن زرارة، وقيس بن عاصم، وقيس بن الحارث، وعمرو بن الأهتم، ومعهم عيينة بن حصن بن بدر الفزارى، وكان رجل سوء، يحضر فى كل سوء، نادوا بصوت جهير جاف: يا محمد اخرج الينا ثلاثا، ولم يقولوا يا رسول الله، ثم خرج اليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد ان مدحنا زين، وذمنا شين، نحن أكرم العرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذبتم، بل مدح الله الزين، وشتمه الشين، وأكرم منكم يوسف ابن يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم" وذكر ابن اسحاق منهم الأقرع ابن حابس، وذكر أنه وعيينة شهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة وحنينا والطائف، وأن عمرو بن الأهتم خلفه القوم فى ظهرهم، وأن خطيبهم عطارد بن حاجب، وخطيبه صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شماس، وشاعرهم الزبرقان بن بدر، وشاعره صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت.
ولما فرغ حسان من الشعر قال الأقرع: ان هذا الرجل المؤتًّى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا، وأنه لما فرغوا سلموا فأحسن صلى الله عليه وسلم جوائزهم، أعطى كل واحد اثنتى عشرة أوقية وكساء، ولعمرو بن الأهتم خمس أواق لحداثة سِنِّه، وكان عاصم بن قيس يبغض عمرا، فقال: يا رسول الله انه كان رجلا منَّا فى رحالنا وهو غلام حدث، ونقصه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أعطاه مثلهم اثنتى عشرة أوقية، فبلغه فقال:

ظللت مفترش الهلباء تشتمنى عند الرسول فلم تصدق ولم تصب
سدناكم سؤدداً رهواً وسؤدكم باد نواجذه مقع على الذنب

وروى ابن مردويه، عن سعد بن عبد الله أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل عن هؤلاء المنادون فقال: "هم الجفاة من بني تميم، لولا أنهم من أشد الناس قتالاً للأعور الدجال لدعوت الله سبحانه وتعالى عليهم ليهلكهم" وجعل ذلك أبو هريرة أحد أسباب حبهم، والمشهور أن سبب وفودهم المفاخرة، وقيل: سببه أنهم جهروا السلاح على خزاعة، فبعث صلى الله عليه وسلم عيينة بن بدر فى خمسين، وليس فيهم أنصارى ولا مهاجرى، فأسر منهم أحد عشر رجلا، واحدى عشرة امرأة، وثلاثين صيبا، فقدم رؤساؤهم لأسراهم فى سبعين أو ثمانين منهم: عطارد، والزبرقان، وقيس بن عاصم، وقيس بن الحارث، ونعيم بن سعد، والأقرع بن حابس، ورباح بن الحارث، وعمرو بن الأهتم، ودخلوا المسجد وقد أذن بلال للظهر، والناس ينتظرون خروجه للصلاة، فنادوه من وراء الحجرات، وأجازهم بما مر آنفا قال الأقرع:

أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا إذا خالفونا عند ذكر المكارم
وأنا رءوس الناس من كل معشر وأن ليس فى أرض الحجاز كدارم
وأن لنا المرباع فى كل غارة تكون بنجد أو بأرض التهائم

فقال صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس: "أجبهم" فأجاب ثم قال أيضا لحسان: "أجبه" فقال:

بنو دارم لما تفخروا إن فخركم يصير وبالا عند ذكر المكارم
هبلتم علينا تفخرون وأنتم لنا خول من بين ظئرٍ وخادم

فقال صلى الله عليه وسلم: "لقد كنت يا أخا دارم غنيَّا أنْ يذكر منك ما ظننت أن الناس قد نسوه" فكان قوله صلى الله عليه وسلم هذا أشد عليهم مما قال حسان، لأنه مصدق مثبت لما قال حسان فقال حسان:

فلا تجعلوا لله ندّاً وأسلموا وأموالكم أن تقسموا فى المقاسم
فلا تجعلو لله ندّاً وأسلموا ولا تفخروا عند النبى بدارم
وإلا وربُّ البيت قد مالت القنا على هامكم بالمرهفات الصوارم

فقال الأقرع: والله ما أدرى ما هذا خطيبكم وشاعركم أحسن من خطيبنا وشاعرنا، ودنا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد ان لا الله إلا الله وأنك رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: "ما يضرك ما كان قبل هذا" فيومئذ أسلم الأقرع، ومعلوم أن سنة الوفود سنة تسع والطائف وحنين قبلها، قد ذكر أنه شهدهما، وشهر أنه وعيينة من المؤلفة قلوبهم، إذ قسمت أموال حنين.
وعن ابن عباس: أصاب النبى صلى الله عليه وسلم بسرية أمَّر عليها عيينة بن حصن نساء وذرارى من بنى العنبر، هربوا وتركوهم، فجاءوا للفداء، ودخلوا المسجد، فعجلوا قول: يا محمد اخرج الينا، فخرج، ويروى أنهم قالوا: فادنا عيالنا، فنزل جبريل عليه السلام فقال: "إن الله يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلاً" فقال صلى الله عليه وسلم:
"أترضون أن يكون بيني وبينكم سبرة بن عمرو، وهو على دينكم" قالوا: نعم، قال سبرة: أنا لا أحكم وعمى شاهد، وهو الأعور بن شامة، فرضوا بعمه فقال: أرى أن تفادى نصفهم وتعتق نصفهم، فقال صلى الله عليه وسلم: "رضيت" ففعل ذلك، فأطلق النصف، وفادى النصف.
وعن زيد بن أرقم: جاء ناس من العرب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعض لبعض: انطلقوا بنا الى هذا الرجل ان كان نبيا كنا أسعد الناس به، وان كان ملكا نعش فى جنابه، فجاءوا ونادوه من وراء الحجرات: يا محمد يا محمد، فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات، فنقول: هم المذكرون قبل، وبنو العنبر من بنى تميم وعيينة هو عيينة بن حصن بن بدر، تارة ينسب الى جده، وتارة الى أبيه والمنادى واحد وهو الأقرع، واسناده الى الكل حكم على المجموع، وكأنه ناداه كل واحد لرضاهم، أو أمرهم به.
{ مِنْ وراء الحجرات } خلفها، أو قدامها، لأن وراء من المواراة، فما استتر عنك فهو وراءك خلفا أو قداما، اذا لم تره، واذا رأيته لم يكن وارءك فهو مشترك معنوى، وقيل: هو من الأضداد، فهو مشترك لفظى، والمفرد حجرة بضم فاسكان من الحجر، بمعنى المنع والقطعة من الأرض حجرة اذا أحيط عليها ببناء أو حطب أو حجارة، أو نحو ذلك، مما يمنعها كحظيرة الابل المحاط عليها بحطب، بمعنى ممنوعة، وكانت حجرات نسائه تسعا، صلى الله عليه وسلم، لكل واحدة حجرة من جريد النخل، على أبوابها المسموح من شعر أسود، قال داود بن قيس: رأيتهن، وأظن عرض البيت من باب الحجرة الى باب البيت ست أذرع أو سبع، وأحزر البيت الداخل عشر أذرع، وأظن السمك بين الثمانى والسبع، رواه البخارى، وابن أبى الدنيا، والبيهقى.
وعن الحسن: كنت أدخل بيوت أزواج النبى صلى الله عليه وسلم، فى خلافة عثمان، فأتناول سقوفهن بيدى، قال سعيد بن المسيب: والله لوددت أنهم تركوهن على حالهن ليراها من يأتى فيزهد كما زهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونساؤه رضى الله عنهن، ولم يقل من وراء حجرات نسائك، أو من وراء حجراتك توقيرا له عما يوحشه من ذكره بما عد للستر لنحو الوطء، ثم انه قيل: وقع النداء فى كل حجرة، وقيل: النداء من وراء واحدة نداء من وارئهن لنتابعهن: بحيث ينفذها نداء واحد، وأل للاستغراق والعهد، أو عوض عن الاضافة.
وقيل: الحجرات الحجرة التى فيها النبى صلى الله عليه وسلم، جمعت تعظيما، ولأنها أم الحجرات وأشرفها، كما جمع المسجد الحرام فى قوله تعالى:
" { ومن أظلم ممن منع مساجد الله } " [البقرة: 114] فى أحد الأوجه، لأنه امام المساجد، ومن للابتداء، والمراد وقع النداء اليك من وراء الحجرات، وهو معنى غير معنى ينادونك وراء الحجرات، وهو أولى من الثانى، لأن من تشعر بالانتهاء والغاية من حيث انها للإبتداء، ويحتمل أن تفيد من تلويحا الى الطرف المتصل بالحجرات من الوراء أو الأبعد، واسقاطها يقبل أنه صلى الله عليه وسلم فى الوراء مع أنه ليس فى الوراء.
{ أكْثَرهم لا يعْقِلونَ } من نادى بلا أدب ولم يصبر، ومنه من أمر بذلك أو رضى، والقليل لم ينادى ولم يرض ولم يأمر، ولولا تفويت النداء لنادى نداء حسنا، أو صبر حتى يخرج صلى الله عليه وسلم.