خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيۤءَ إِلَىٰ أَمْرِ ٱللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِٱلْعَدْلِ وَأَقْسِطُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ
٩
إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
١٠
-الحجرات

تيسير التفسير

{ وإنْ طائفتان } أى وان اقتتلت طائفتان { من المؤمنين } نص فى جواز تسمية الموحد الفاسق مؤمنا، ولا يختص بالموفى { اقْتَتَلوا } تقاتلوا، فهو من الافتعال الذى بمعنى التفاعل، ولم يقل اقتتلتا كما قرأ به ابن أبى عبلة مراعاة للفظ طائفتين، ولا اقتتلاكما قرأ به زيد بن على مراعاة لمعنى الفريقين، وكما قال بينهما، بل قال اقتتلوا مراعاة لما فى كل طائفة من تعدد الأفراد { فأصلْحُوا } بالوعظ والنصح، وازالة شبهة ان كانت { بينهما } خطاب للباقين الذين لم يقتتلوا، وضمير التثنية مراعاة للفظ طائفتان، مراعاة للفظ بعد مراعاة المعنى، والكثير العكس، ونكتة ذلك هنا أنهم حين الاقتتال يختلط بعض الطائفة، بالأخرى، وفى حال الصلح تمتاز كل طائفة على حدة.
{ فإنْ بَغَت إحداهما عَلى الأخْرى } بعد المطالبة بالصلح، والفاء لمجرد الترتيب إذ لم يتقدم ما يتفرغ وتسبب به { فقاتلوا التي تَبْغي حتَّى تَفيء } ترجع { إلى أمْر الله } واحد الأمور، والمراد حكم الله، أو هو ضد النهى، أى الى ما أمر الله به، ويجوز أن يكون المراد بالفاء الأولى الترتيب الذكرى، فيرجع الكلام الى غير الصلح. أى ان رأيتم بغيا فأعينوا المبغى عليه، إلا أنه ينبغى المطالبة أولا بالكف عن البغى { فإن فاءت } رجعت الباغية الى أمر الله.
{ فأصْلحُوا بيْنَهما } بالأمر برد ما أخذ من الأموال، وبديات القتلى والجرحى والفساد فى البدن، وعبر بالاصلاح لأنه ربما لا يتوصل الى ايصال كل ذى حق الى كل حقه إلا به، أو الاصلاح هنا ازالة الفساد، ويجوز الصلح، ولو تميز كل حق وصاحبه اذا خيف دوام الفتنة بالاستقصاء، ولا تتركوهم بلا اصلاح لئلا يرجعوا الى القتال { بالعَدْل } قيد للاصلاح، لأن المقام مظنة الحيف { وأقْسطُوا } اعدلوا فهو تأكيد للعدل، أى أقسطوا فى كل شىء، فيدخل هذا الإصلاح، وهذا تاكيد، وأكد مطلق الاقساط بقوله تعالى: { إنَّ الله يحُبُّ المقْسِطينَ } يجازيهم على اقساطهم أحسن الجزاء، وكيفية الإصلاح أن يقول لاحدهما: أعطوا الأخرى كذا، واتركوا لها ما عليها، أو اتركوا لها كذا باختياركم، أو اذنوا لى أن أقدر ما تعطون أو يعطون، ومن ذلك أن تترك كل واحد مالها على الأخرى، وعليه جمهور قومنا، فان أبوا لم يجبرهم.
وقال قومنا: يجبرهم على أن تعطى الفئة الباغية قليلة العدد، بحيث لا منعة لها ما أفسدت، وان كانت كثيرة العددات شوكة ضمنت عند محمد بن الحسين، لا عند غيره، وذلك اذا فاءت، وأما قبل التجمع والتجند، وعند التفرق، ووضع الحرب أوزارها فما جنته ضمنته، وقيل: ان مراد الآية اماتة الضغن الحقد دون ضمان الجنايات وهو ضعيف، لأنه لا يطابقه ذكر العدل والاقساط، وانما يناسب ذكرهما تدارك الفرطات، وأما بدونه فكأنه لا عمل للمصلح، والخطاب فى الاصلاح العموم، والمراد بالذات أولو الأمر أو أعظمهم، وفى ذكر المجموع تلويح بأنه لم يصلح بينهم أولو الأمر أو كبيرهم، فليصلح العامة أو أحدهم، وقد قيل: الخطاب لأولى الأمر الذين يتأتى لهم الاصلاح، ومقاتلة الباغى، مثل أن تمتنعا من الصلح واستمرتا على القتال، فأتاهما معا أولو الأمر وكبيرهم لعدم الاذعان الى الصلح المأمور به، والمذهب حمل ذلك على أن تقاتل الباغية فقط، وبه قال جماعة من قومنا، حتى ان اعانة المبغى عليها كجهاد المشركين.
وصرح بعض الحنابلة بأنه أفضل من جهاد المشركين، لأن على بن أبى طالب ترك جهاد المشركين، واشتغل بقتال معاوية، وليس كذلك بل اشتغل بقتاله لما ظهر بغية وبغى من معه من بنى أمية، فلو تركه لأدى الأمر الى فساد أقوى مما وقع، ولولا أنه يؤدى الى ذلك لم يكن أفضل من جهاد المشركين، وقد قدم على اشتغاله بقتال الخوارج عنه، وقال: ليتنى لم أقاتلهم، لأنهم أسد النهار، ورهبان الليل، شفيت نفسى، وقطعت يدى، وعاتبه ابنه الحسن، وروى أنه تاب ولم يعتن الناس بتوبته، لأنه لم يشهرها، ولم تتيقن عنه، ولما قالت الصفرية، والنجدية والأزارقة بتحليل الدماء والأموال بالذنب، خرج عنهم الأباضية الوهبية، ومن أول الأمر امتنع عن قتال الخوارج عنه، وما زال به الأشعث بن قيس عامله الله عز وجل بما أجرم حتى قاتلهم.
قال ابن عمر: ندمت جدّاً إذ لم أقاتل مع على معاوية ومن معه، لأنهم فئة باغية، كما أمرنى الله تعالى بقوله: { وإنْ طائفتان } الخ رواه البيهقى، والحاكم، وذلك أن الامام هو على، ولا يجوز لمعاوية منازعته فى الامامة، ولا لعلى تركها، قال صلى الله عليه وسلم لابن مسعود:
"يا ابن أم عبد هل تدري كيف حكم الله فيمن بغي من هذه الأمة؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: لا يجهز على جريحهم، ولا يقتل أسيرهم، ولا يطلب هاربهم، ولا يقسم فيؤهم" ولم يذكر انتفاء المأوى، واستخرج بعض أصحابنا اشتراطه قطعا لرجوعهم.
ويروى أنه سئل علىّ عن أهل الجمل وصفين، أمشركون؟ قال: لا، عن الشرك فروا، فقيل: أمنافقون؟ قال: لا، ان المنافقين لا يذكرون الله الا قليلا، فقيل: وما هم؟ قال: اخواننا بغوا علينا، ونادى منادى على يوم الجمل: ألا لا يتبع مدبر، ولا يقتل أسير، ولا يجهز على جريح، فيؤخذ من ذلك أنه لا يقتل الأسير الموحد، وأتى على بأسير يوم صفين فقال: لا أقتلك صبرا انى أخاف الله رب العالمين، ولا يحكم على ما فى بعض الكتب على احدى الطائفتين بما أتلفت من مال أو نفس، وعبارة بعض قومنا من كانوا قليلين أو لم يكن لهم تأويل أو لم ينصبوا إماماً فلا يتعرض لهم ان لم ينصبوا قتالا، ولم يتعرضوا للمسلمين، وان فعلوا فهم كقطاع الطريق.
وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه الى سعد بن عبادة ليزوره، والذى فى الصحيحين ليعوده، أى من مرض قبل بدر، فمر على عبد الله بن أبى بن سلول فقال لعنه الله: اليك عنى، والله لقد آذانى ريح حمارك، فقال له رجل من الخزرج ممن جاء معه، هو عبد الله بن رواحة، والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك، فغضب لعبد الله رجال من قومه من الأوس، وغضب للخزرجىرحمه الله رجال من قومه من الخزرج، وتقاتلوا بالجرائد والنعال والأيدى، فنزلت الآية، وقيل: ان القصة وقعت لذهابه الى عبد الله بن أبى، إذ قيل له: لو أتيته لتصلح بين الأوس، والخزرج لقتال متقدم بينهم، فالطائفتان الأوس والخزرج، وقيل: أتاه إذ قيل له أتيته لتدعوه الى الاسلام، وفى الصحيحين رواية عن أسامة: أنه انطلق الى سعد ليعوده، فمر على أبى فى مجلس فيه المسلمون والمشركون عبدة الأصنام، واليهود والمنافقون، وأنه قرأ عليهم القرآن، فقال أبى: لا أحسن مما قلت، لكن لا تؤذونا فى مجلسنا، ارجع الى رحلك وقص على من جاءك.
وفى الصحيحين أيضا رواية عن أنس قيل له صلى الله عليه وسلم: انطلق الى أبى إذ قيل له، أى ائته، أى لتدعوه الى الاسلام، وذكر ابن جرير، عن السدى أن الآية فى عمران الأنصارى وزوجه أم زيد، إذ منعها أن تزور أهلها، وقفل عليها فى علية، فبعثت اليهم، فجاءوا وهو غائب فأخرها ليمضوا بها، فقاتلهم بنو عمه بالجرائد، وبما ذكر، وقال قتادة الآية نزلت فى رجلين قال أحدهما لكثرة قومه: والله لآخذن حقى عنوة، ودعام الآخر اليه صلى الله عليه وسلم، وتضاربا هما وقوماهما، وأكد الاصلاح العام أيضام بقوله:
{ إنَّما المؤمنُون إخوةٌ } عظام أشقاء، استعارة تصريحية لجامع لتعاون، كما يتعاون الاخوة يتعاون أهل الاسلام فى الاسلام، ولجامع الانتساب الى أصل واحد، وهو الايمان الموجب للحياة الأبدية، ولجامع المشاركة، فانهم اشتركوا فى الايمان الذى هو منشأ البقاء الأبدى، والتوليد الذى هو منشأ الحياة، وذلك على مختار السعد فى: زيد أسد، أو المشهور أنه تشبيه بليغ إذ ذكر المشبه والمشبه به معاً، فلفظ اخوان فى الصداقة، ولفظ الاخوة فى النسب، والعكس قليل، ومن الكثير الآية على التشبيه باخوة النسب، لأنها أقوى وأشد اتصالاً وتعاضدا، وأكثر فى الوجود، فالاخوة النسبية أكثر من اخوة الصداقة، ولأن اخوان الصداقة مجاز عن اخوة النسب، وزاد تأكيدا بقوله تعالى:
{ فأصْلحُوا بَيْن أخَويكُم } إذ وضع الظاهر موضع المضمر تحضيضا لهم على الاصلاح بذكر الاخوة، والأصل فأصلحوا بينهم، والاضافة لجنس فعمت الطائفتين، كما قرأ ابن سيرين، بين اخوتكم بالتاء، وكما قرأ زيد بن ثابت، وابن مسعود: بين اخوانكم بالنون، وحكمة صورة التثنية الاشارة الى وجوب الصلح بين شخصين، فكيف جماعتان، والى أن الطائفتين ولو كثر أفراد كل واحدة فى الاتصال، وقد قيل: المراد بالأخوين الأوس والخزرج، لاجتماعهما فى الجد الأعلى، وكان كل واحدة أخ، وفى البخارى ومسلم، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يشتمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله بها عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة" .
{ واتَّقُوا الله } فى اعتقادكم وأقوالكم وأفعالكم، ومنها الاصلاح فلا تتهاونوا به { لعَلَّكم تُرحَمون } لترحموا، أو قائلين لعلنا نرحم.