خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ
٢٤
لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ
٢٥
-التوبة

تيسير التفسير

{ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاءُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ } أَقرباؤكم، مأخوذ من العشرة لأَنها جماعة ترجع إِلى العقد عشرة فصاعدا وهى كاملة، والعشرة عقد كامل، ويجوز أَن يكون من معنى المعاشرة فيصدق ولو على أَقل من عشرة، وقيل: العشيرة الأَهل الأَدنون، وقيل: القرابة الذين يكثر بهم ولو أَقل من عشرة، { وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا } اكتسبتموها { وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا } عدم أَن تسام أَو تساوم بنجس { وَمَسَاكِنَ تَرْضَوْنَهَا } حسنة معجبة لكم لم تسمح نفوسكم بفراقها { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ ورَسُولِهِ } فلم تتركوهم لأَجل الله، أَو رجعتم إِلى مكة مرتدين { وَجِهَادٍ فِى سَبِيلِهِ } قال صلى الله عليه وسلم: "لا يطعم أَحدكم طعم الإِيمان حتى يحب فى الله تعالى، ويبغض فى الله تعالى" حتى يحب فى الله سبحانه أَبعد الناس، ويبغض فى الله عز وجل أَقرب الناس { فَتَرَبَّصُوا } تمهلوا، وهو أَمر تهديد كقوله عز وجل " { ومن شاءَ فليكفر } " [الكهف: 29] أَى ابقوا على الكفر، ولا حاجة إِلى تضمين معنى انتظر، وتقدير المفعول أَى: انتظروا عذاب الله، وقد أَغنى عن ذلك قوله تعالى { حَتَّى يَأْتِىَ اللهُ بِأَمْرِهِ } أَى عذابه عاجلا أَو آجلا، دنيويا أَو أُخرويا، أَو فتح مكة كما هو رواية عن ابن عباس ومجاهد، وفيه أَن السورة بعد فتحها إِلا على ما مر من أَن أَولها قبله، أَو الآية قبله، وقل من لا يختار هؤلاءِ عند الله ورسوله، وقل من يختار ما لله عما له { وَاللهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } هذا وعيد ثان لمن استمر على اختيار ذلك عن الله ورسوله وجهاد فى سبيله، والأَول "تربصوا حتى يأتى الله بأَمره" فتبين أَن المراد بالحب الحب الذى يتسبب فى حصوله أَو الاسترسال فيما كان منه بالطبع دون علاج انتفائه، ومطلق الحب طبيعى، وإِنما يعاقب على الكسبى بتعاطى أَسباب حصوله أَو الاسترسال فى الطبيعى، وسلاهم عن مفارقة من صعبت عليهم مفارقته وذكرهم نعمه بقوله:
{ لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللهُ } على أَعدائكم { فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ } فى ثمانين غزوة، حضر صلى الله عليه وسلم بعضها دون بعض، ومن عد أَقل من الثمانين اقتصر على المشاهير كغزوة بدر وغزوة أُحد، وغزوة قريظة وغزوة النضير وفتح مكة. نذر المتوكل بمال كثير إِن شفاه الله تعالى، فشفاه فسأَل العلماءَ عن الكثير فاختلفوا عليه فقيل: اسأَل أَبا الحسن على بن محمد بن على بن محمد بن على بن موسى الكاظم، وهو من ذرية على وفاطمة، وهو محبوس فى داره، فكتب إِليه فأَجابه فى كتاب بأَن يتصدق بثمانين درهما، ثم سأَلوه عن وجه ذلك، فقال: عددنا تلك المواطن فبلغت ثمانين، والمراد ما يشمل السرايا والبعوث، وقيل: جميع ذلك سبعون، وفى البخارى ومسلم من حديث زيد بن أَرقم: كانت غزواته صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة، زاد بريدة فى حديثه: قاتل فى ثمان منها. والموطن اسم مكان الإِقامة أَو زمانها أَو مصدر، وضعف الزمان بعض، فالمعنى فى أَماكن الحرب أَو أَزمنة الحرب أَو إِقامات الحرب التى أَقمتموها للحرب، والأَول أَولى، ويدل على أَن المواطن للحرب قوله { إِذ أَعجبتكم كثرتكم } إِلخ.. { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ } ذكر للخاص بعد العام وهو منصوب بنصركم محذوف، أَو عطف على مواطن إِن جعلناه بمعنى أَزمنة الحرب، وإِن جعلناه أَمكنة قدرنا اذكر يوم حنين، إِذ لا يعطف الزمان على المكان ولا المكان على الزمان، لا يقال: جلست فى المسجد ويوم الجمعة، ولا جلست يوم الجمعة وفى المسجد، بل يسقط العاطف لأَن المتعلق يصلهما بلا عطف، وأَجاز أَبو على الفارسى العطف فيها، وكرهه بعض، والأَقوال فى عطف الزمان أَو المكان على المصدر أَيضا، وهذا غير المصدر، ولا يصح تقدير مضاف هكذا، وموطن يوم حنين على قصد المكان فى الموضعين لأَنه إِن قدر موطن منصوب على الظرفية فكيف ينصب على الظرفية وعامله من غير لفظه ومعناه، وهذا على المشهور ممنوع، وإِن قدر فى موطن يوم فكيف حذف المضاف المجرور مع الجار، وينصب المضاف إِليه، وإِن قدر المضاف أَولا. أَى فى أَزمنة مواطن صرنا فى التقدير قبل الحاجة. وحنين واد إِلى جنب ذى المجاز على ثمانية عشر ميلا بين مكة والطائف، وعبارة بعض بضع عشر ميلا، ومن قال ثلاثة أَميال اعتبر طرفه التالى لمكة { إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } إِذ بدل من يوم بدل شئ من شئ لا بدل اشتمال كما قيل، ولا مانع من عطف مقيد على مطلق وذلك أَن يوم معطوف على ما قبله، وهو مقيد بالكثرة والإِعجاب، ولا كثرة وإِعجابا فى المواطن الكثيرة نحو أَكرم عمراً وزيدا إِذا جاع، أَو عمرًا وزيدا الجائع { فَلَمْ تُغْنِ } تدفع { عَنْكُمْ شَيْئًا } من الضر، أَو لم تغن عنكم غناء، روى أَن صحابيا وهو سلامة بن سلامة بن رقيش. أَرسله صلى الله عليه وسلم جاسوسا فسمع أَميرهم مالك بن غوث يقول: ما اجتمع اليوم أَربعة فى شئ إِلا فرج إِليه، فأَخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وقال:"والله لن يغلبنا عدونا من قلة، وإِن غلبونا فلغير القلة، لأَنا كثيرون، وكره النبى صلى الله عليه وسلم قوله وخاف منه إِذ فيه الاعتماد على الكثرة، وقال سعيد بن جبير: قاله الصديق. وأَبعد منه قول من قال إِنه قاله النبى صلى الله عليه وسلم لأَنه أَبعد الناس عن هذا، لكن ربما يخطر بباله أَو ببال الصديق كما هو شأن البشر لحظة فيغفل عن نفسه، فكان العقاب بالانهزام، ولله أَن يفعل ما يشاء، كما له أَن يفعل ذلك بقول سلمة، بل لعل فى قلوب الصحابة ذلك ولو لم ينطقوا به، أَو فى قلوب أَكثرهم أَو قليل فأَراد الله عز وجل أَن يبين لهم بالمشاهدة، أَن الغلبة بالله لا بالكثرة، وروى أَنه صلى الله عليه وسلم قال:
"خير الأَصحاب أَربعة وخير السرايا أَربعمائة، وخير الجيوش أَربعة آلاف، ولا تغلب اثنا عشر أَلفا من قلة" ، وإِنما قال ذلك لأَن قوله لا ينافى توكله، وكانوا اثنى عشر أَلفا، أَلفان من أَهل مكة وما يليها الذين أَسلموا، وعشرة آلاف من المهاجرين والأَنصار من المدينة ما يليها ومن التحق بهم فى الطريق، وقيل ستة عشر أَلفا، وعليه عطاء، وقال الكلبى: عشرة آلاف، ويجمع أَنهم أَولا عشرة آلاف ثم تلاحق الناس فتح مكة فى رمضان عام ثمانية، وغزا غزوة حنين فى أَواخر رمضان، وأَوائل شوال المتصل به، والمشركون أَربعة آلاف، وقيل أَكثر من عشرين أَلفا، وقتل منهم سبعون ومن المسلمين أَربعة { وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ } أَرض القتال كأَنكم لم تجدوا منها موقفا فهربتم لشدة الرعب إِلى غيرها حتى وصل بعض منهزميكم مكة { بِمَا رَحُبَتْ } ما مصدرية والباء بمعنى مع أ َى ضاقت مع سعتها، وذلك كناية عن كونهم مغلوبين، أَو شبه أَرض الغلبة عليهم بأَرض الضيق بجامع عدم انشراح الصدر فيها بالوسع وبوقوع الهم { ثُمَّ وَل‍َّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } أَى توليتم فهو لازم بمعنى أَعرضتم، ولا حاجة إِلى إِبقائه على التعدية، وعليها يقدر وليتموهم أَدباركم فالهاء مفعول أَول أَو ثان أَى جعلتم أَدباركم تالية لهم، أَو جعلتموهم تالين أَدباركم كقوله تعالى " { فلا تولَّوهم الأَدبار } " [الأَنفال: 15] وذلك أَن أَخفاء من الناس لما رأَوا كثرة المسلمين سارعوا وهم شبان لا لباس لهم مما يمنع النبل فرشقهم قوم حداق بالنبل فانهزموا، ولم يبق معه صلى الله عليه وسلم إِلا عمه العباس وابن عمه أَبو سفيان بن الحارث، والحارث قيل هو أَكبر أَعمامه وأَبو سفيان هذا آخذ بلجام بغلته، وقيل: العباس، وقيل: بقى معه العباس وأَبو سفيان ابن الحارث وعلى ابن أَبى طالب، وفى مسلم عن العباس بن عبد المطلب: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمت أَنا وأَبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم نفارقه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاءَ أَهداها له صلى الله عليه وسلم فروة بن نفاثة الجذامى، وليس هذا فى البخارى، ويروى أَن معه عمه العباس وابن عمه أَبا سفيان بن الحارث وابنه جعفر، وعلى بن أَبى طالب وربيعة بن الحارث والفضل بن العباس وأسامة بن زيد وأَيمن بن عبيد، وقاتل رضى الله عنه بين يديه صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء كلهم من أَهل بيته وهذه مكرمة عظيمة:

تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فصارا بعد أَبوالا

وثبت معه أَبو بكر وعمر رضى الله عنهما فهم عشرة قال العباس:

نصرنا رسول الله فى الحرب تسعة وقد فر من قد فر منهم واقشعوا
وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه بما مسه فى الله لا يتوجع

وقيل مائة وثلاثون من المهاجرين، وسبعة وستون من الأَنصار، ويجمع بأَن العباس وأَبا سفيان وعليا ثبتوا معه، والباقين بعدوا عنه قليلا ولم يفروا، وإِنما أَسلم أَبو سفيان وخلص إِسلام العباس يوم الفتح، وحضر صلى الله عليه وسلم الحرب ببغلته لشجاعته، إِذ لا تصلح للكر والفر، وكان يواجهها إِلى جهة العدو وتزول الجبال ولا يزول. وقال للعباس: صح بالناس. وكان يسمع من ثمانية أَميال. فنادى: يا عباد الله، يا أَصحاب الشجرة، سورة البقرة، وأَراد بأَصحاب الشجرة أَهل الحديبية " { لقد رضى الله عن المؤمنين إِذ يبايعونك تحت الشجرة } " [الفتح: 18] وبأَصحاب البقرة المؤمنين فى قوله تعالى " { آمن الرسول بما أنزل إِليه من ربه والمؤمنون } " [البقرة: 285] وقيل: الحافظين لسورة البقرة، وكانوا رؤساءَ الصحابة قليلين، وهو الصحيح، هؤلاء تذكيراً للنعمة، وتلويحاً إِلى أَنه مَنْ هذه صفته لا يليق به الفرار، والدعوة فى الأَنصار: يا معشر الأَنصار، يا معشر الأَنصار. ثم خصت الدعوة فى بنى الحارث بن الخزرج: يا بنى الحارث بن الخزرج، يا بنى الحارث بن الخزرج. ولما نادى أَقبلوا مسرعين بمرة قائلين: لبيك لبيك. فنزلت الملائكة والتقوا مع المشركين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَلا حين حمى الوطيس" ، أَو هذا حين حمى الوطيس. هو التنور، أَو المقلى، كناية عن شدة الحرب، ولم يقله أَحد قبله، وفيه تلويح إِلى أَوطاس، وهو الوادى الذى فيه هو، والمعنى شدة الحرب، جمع وطيس كأَيمان ويمين. واستعار لشدة الحرب: حمى الوطيس، وكان يقول: أَنا النبى لا كذب. أَنا ابن عبد المطلب. اللهم أَنزل نصرك، وأَخذ صلى الله عليه وسلم كفا من حصباءَ أَو من تراب، فرماهم بها، وقال: انهزَموا ورب الكعبة (بفتح الزاى) فما أَحد منهم إِلا ملأَ عينيه من التراب. أَخذ القبضة واستقبل وجوههم، وقال: شاهت الوجوه فرماهم.