خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ
٢٩
-التوبة

تيسير التفسير

{ قَاتِلُوا } يا محمد وأَصحابه { الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ } من أَول السورة إِلى هذا فى المشركين من العرب، واستأنف كلاماً فى اليهود والنصارى المشركين من أَهل الكتاب. نزلت الآية فغزا تبوك وصالحهم بمال يعطونه، وهم نصارى، وقال الكلبي: نزلت فى قتال قريظة والنضير وهم يهود فقاتلهم وأَعطوا الجزية، وهى أَول جزية فهذه ومال تبوك من فضله الذى يغنيهم به، وإِنما نفى عنهم الإِيمان لأَنهم لا يؤمنون بالنبى صلى الله عليه وسلم، وكفرت النصارى بأَنبياء اليهود واليهود بعيسى، واليهود يعتقدون أَن الله جسم وأَنه استوى على العرش استواء معقولا، ويقولون أَنه على صورة الإِنسان، وأَن عزير ابن الله، والنصارى يقولون بحلول الألوهية منه فى عيسى ومريم، وأَنهما إِلهان أَو هو ابن الله. ويقول النصارى: تبعث الأَرواح دون الأَجسام. ويقولون هم واليهود: لا أَكل ولا شرب فى الجنة ولا نكاح وذلك كله إِشراك ويقول اليهود لا يدخل الجنة إِلا اليهود، يعنون: لا يدخلها النصارى وهذه الأُمة. وتقول النصارى: لا يدخلها إِلا من كان نصارى، أَو لا تدخلها هذه الأمة واليهود. وقالت اليهود: لن تمسنا النار إِلا أَياماً معدودة، فإِِيمان من هؤلاء صفاته كلا إِيمان بالله واليوم الآخر، فإِن الإِيمان بالشئ على غير ما هو عليه غير إِيمان به، وإِنكار لله، { وَلاَ يُحرَّمُونَ مَا حَرَّم اللهُ ورسُولُهُ } كالخمر والخنزير والربا. ورسوله هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أَو الجنس، أَى كل لا يحرم ما حرم الله ورسوله، ولما جاءَ صلى الله عليه وسلم خالفوه، ويجوز أَن يراد برسول الله ما يشمل رسلهم، وسيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم. والوجهان لا يليقان بالسياق، قيل: ولا سيما باللحاق، فإِن ما قبل هذا فى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله { وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ } فيه أَيضاً، وفيه أَن هذا ظاهر فى عموم الحق قبله صلى الله عليه وسلم ومعه صلى الله عليه وسلم، والحق الصواب عند الله، وقيل: الحق لله، وقيل: المراد دين أَهل الحق، وقيل: الدين الطاعة والحق الله، ويجوز أَن يراد بالحق الثابت والإِضافة للبيان، أَى ديننا هو الثابت الذى لا ينسخه دين، وإِما أَن يراد دينهم الحق الذى جاءَ به أَنبياؤهم وديننا، ففيه إِنما نقاتلهم على مخالفة ديننا لا على مخالفة دين نبيهم، نعم نبيهم يأْمرهم بالإِيمان بنبينا صلى الله عليه وسلم { مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } اليهود والنصارى والصابئون داخلون فى اليهود والنصارى، وكذا السامرية، وذلك بيان للذين لا يؤمنون { حَتَّى يُعْطُوا } يعطوكم { الْجِزْيَةَ } من أَنفسهم بالإِذعان لها، وليس إِحضارها فتقبض فإِنها تعطى آخر العام، وقيل: أَول العام التالى لعام عقدها. وابتداء العام حين عقدت، والجزية فعلة للهيئة من جزى إِذا قضى ما عليه، ويقال: جزى دينه إِذا قضاه، ومنه لا تجزى نفس عن نفس شيئاً. وقيل: سميت لأَنها جزاء الكفر، أَى عوقبوا بها لكفرهم، فهى من معنى المجازاة، وقيل: لأَنها تجزى عن دمائهم، أَى تكفى عن قتل، فهى من معنى الإِجزاء. يقال: فلان يجزى أَى يكفى وقيل من معنى المجازاة لكفنا عنهم القتال، أَو لأَنها جزء من المال مفروض، وعليه تكون الياء عن همزة. وقيل: معرب من كزيت وهو الخراج بالفارسية. ولا يجوز هذا لأَن الأَصل عدم كون اللفظ معرباً إِلا ما قام دليله. وعلى كل حال هى فى الأَصل مصدر أَطلقت على مقدار من الخراج { عَنْ يَدٍ } متعلق بمحذوف حال من الجزية. ويد انقياد أَى ثابتة عن انقياد، أَى يقدر خاصاً، أَى صادرة عن يد، أَو صادرة أَو ثابتة عن ذل منهم أَو عن إِنعام منكم بقبولها، أَو عرفهم عليهم، أَو عن حضور ونقد، أَو عن غنى، وهو وجود ما يعطى، ومن لم يجد فلا عليه، وقيل: يجبر عليها لأَنه قادر على التوحيد، فلو وحد سقطت عنه، وضعف إِلباثه فى الشمس ملطخاً بالعسل أَو اللبن. وقيل إِن قدر على الكسب فبها وهو قول الشافعى، ومن الذل والانقياد الذى تضمنته معانى يد مجيئهم بها، وعدم تأجيلها، بعد حلول وقتها، ولا يقولون للإِمام أَرسل من يقبضها { وَهُمْ صَاغِرُونَ } أَذلاءَ تأْكيد لقوله عن يد، إِذا فسر اليد بالذل، فالأَولى أَن لا تفسر بالذل، وجعل ابن عباس لقوله: صاغرون معنى على حدة. هو أَن يضرب فى عنقه، وقيل: يؤخذ بتلبيبه ويهزهز، أَو يقال: إِعط الجزية يا ذمى. وقيل: يؤخذ بلحيته وتضرب لهزمته، ويقال: أَد حق الله تعالى يا عدو الله. وفى قبولها وإِهانتهم بذلك إِمهال لهم لعلهم يتفكرون فى المدة، وينظرون فى كتبهم، فيعرفون الحق معه صلى الله عليه وسلم. وليست الجزية إِقراراً لهم على كفرهم. كما زعم بعض، ولعل مراد قائله أَنها عوض عن القتل والاسترقاق الواجبين، فتكون مثل إِسقاط القصاص بعوض الدية، وهى عقوبة على الكفر مثل الاسترقاق. وهى لنفع المسلمين، وقيل: قبلت منهم لحرمة آبائهم الذين على الحق. وقيل: ليتوجعوا بما يعاملون به. فيتركوا الكفر إِلى الإِيمان. وجاءَت السنة بأَخذ الجزية عن المجوس، قال صلى الله عليه وسلم: "سنوا بالمجوس سنة أَهل الكتاب فى الجزية" . أَى لا فى النكاح والذبائح، وأَخذها عن مجوس هجر، كما شهد به عبد الرحمن بن عوف لعمر حيث توقف فى المجوس، وقال مالك والأَوزاعى: تؤخذ من كل مشرك، وفى امتناع عمر من أَخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أَنه صلى الله عليه سولم أَخذها منهم دليل على أَن رأى الصحابة على أَنها تؤخذ من المجوس، وفى البخارى: ما أَخذ عمر الجزية عن المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَخذها من مجوس هجر. ويروى أَنه شهد له عنه صلى الله عليه وسلم أَنه قال: "سنوا بهم سنة أَهل الكتاب" - أَى فى الجزية - وصرح بها فى رواية. والحديث فى الموطأ أَنه صلى الله عليه وسلم أَخذ الجزية من مجوس البحرين، وأَن عمر أَخذها من مجوس فارس. وأَن عثمان أَخذها من البربر. واتفقوا على تحريم ذبائحهم ونسائهم، وأَنها لا تؤخذ من المرتد، وتؤخذ الجزية عن أَهل الكتاب والمجوس ولو كانوا عربا. وقال أَبو يوسف: لا تؤخذ من العربى كتابيا أَو مشركا. وتؤخذ من العجمى كتابيا أَو غيره. وقال أَبو حنيفة: تؤخذ من أَهل الكتاب ولو عربا، ولا تؤخذ من مشركى العرب. وهو مذهب الشافعى. ومن دخل من المشركين فى دين أَهل الكتاب قبل النسخ والتبديل أَخذت منه الجزية، وحلت ذبائحهم ونساؤهم. وأَما بعد التبديل أَو النسخ بمجئ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فلا تقبل عنهم الجزية، ولا تحل ذبائحهم ولا نساؤهم. ومن احتمل الدخول قبل أَو بعد أخذت عنه الجزية حقنا للدماء على الأَصل، ولم تحل ذبائحه وحرم احتياطا. ومنهم نصارى العرب: تنوخ وبهراء وتغلب. أَخذ عمر جزيتهم، وحرم ذبائحهم، وعنه صلى الله عليه وسلم: "الجزية دينار على كل عاقل بالغ" ، وعن أَبى حنيفة: على الفقير اثنا عشر درهما. والأَوسط أَربعة وعشرون، والغنى ثمانية وأَربعون. أَربعة دراهم فى كل شهر وذلك فى كل سنة. وعن عمر أَنه ضرب الجزية على أَهل الذهب أَربعة دنانير. وعلى أَهل الفضة أَربعين درهما. ومع ذلك أَرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أَيام، رواه مالك فى موطئه. ففى كل دينار عشرة دراهم، وعن الزهرى أَنه صلى الله عليه وسلم صالح عبدة الأَوثان إِلا من كان من العرب. قلت: ليس ذلك جزية، بل صلح فلا حجة فيه لمالك. وقيل: تؤخذ من العرب الكتابيين. وإِنما لم تقبل عن العرب لأَنهم أَعرف به صلى الله عليه وسلم وأَفهم؛ إِذ هو فيهم ومنهم وبلغتهم يتكلم، ودلت الآية على أَنه إِن كانوا لا يعطونها إِلا بكره وشدة قوتلوا. وإِنما قبلت من المجوس لأَن لهم شبهة كتاب، كما روى عن على أَنه كان لهم كتاب يدرسونه، فأَصبحوا وقد رفع. وروى أَنهم أَسرعوا فى إِهانته فعوجل بالرفع. ويؤخذ منهم ما يؤخذ من اليهود. وذكر بعض أَنه إِذا قبل أَهل الجزية الزيادة على الدينار فعلى المتوسط ديناران، وعلى الغنى أَربعة، وأَن الغنى من له عشرة آلاف درهم. والمتوسط من له مائتا درهم إِلى أَقل من عشرة آلاف. والفقير من لا يملكها. ولا جزية على شيخ فان وزمن وصبى وامرأَة ومملوك وأَعمى ومفلوج وراهب لا يخالط الناس. وقيل: تؤخذ منهما. وقال أَبو يوسف: تؤخذ من المفلوج. والمذهب أَخذها من الأَعمى. وقوله صلى الله عليه وسلم: "الجزية دينار على كل عاقل بالغ" دليل على أَنه لا جزية على طفل ومجنون، ولم يفرق بين الغنى والفقير. وكذا أَمر صلى الله عليه وسلم معاذا أَن يأْخذ من أَهل اليمن دينارا من كل محتلم أَو عدله من المعافر، وهى ثياب تكون فى اليمن. رواه أَبو داود.