خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٥٢
-آل عمران

تيسير التفسير

تحُسونهم: تستأصلونهم بالقتل. فشلتم: ضعفتم. ليبتليكم: ليختبركم.
في هذه الآية الكريمة والتي بعدها تصوير للمعركة، وعرض كامل لمشهدها، ولتداول النصر والهزيمة فيها، ثم ما تبعها من فرار. ومع ذلك التصوير توجيهات قرآنية، وتربية وتعليم بأسلوب قرآني حكيم.
"{ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ }. ما زال الكلام والخطاب مع الأصحاب الذين كانوا في أُحد.. وكان (صلى الله عليه وسلم) قد وعدهم النصر يومئذ ان امتثلوا أمره. وقد وفى الله لهم بما قاله على لسان نبيه، ذلك ان الرسول (صلى الله عليه وسلم) أقام الرماة عند الجبل صيانة لمؤخرة المسلمين، وأوصاهم ان لا يبرحوا مكانهم، حتى ولو رأوا العدو تتخطفه الطير، ووعدهم النصر بهذا الشرط. وكان الرماة خمسين رجلاً.
ولما ابتدأت المعركة شرع الرماة يرشقون المشركين، وبقية الأصحاب يضربونهم بالسيوف، وقتلوهم قتلاً ذريعاً، حتى انهزموا، وهذا معنى { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ }، أي تقتلونهم بأمر الله. وفي تفسير ابن جرير الطبري والمراغي وغيرهما ان طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين المعروف بكبش الكتيبة قام فقال: يا معشر أصحاب محمد، إنكم تزعمون ان الله يعجّلنا بسيوفكم الى النار، ويعجلكم بسيوفنا الى الجنة، فهل منكم أحد يعجله الله بسيفي الى الجنة، أو يعجلني بسيفه الى النار؟. فقام اليه علي بن أبي طالب (ع) وضربه فقطع رِجله. وسقط، فانكشفت عورته، فقال طلحة لعلي: انشدك الله والرحم يا ابن عم.. فتركه علي (ع) وكبّر رسول الله (صلى الله عليه وسلم). وقال لعلي أصحابُه: ما منعك أن تجهز عليه؟. قال: ناشدني الله والرحم.. هذا هو عليٌّ في خلقه، يفيض قلبه بالحنان والرحمة، حتى على أعدى اعدائه الذي برز له شاهراً السيف في وجهه مصمماً على قتاله وقتله.
{ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ }. بعد أن ولى المشركون الدبر ـ وكانوا ثلاثة آلاف مشرك ـ امتلأ الوادي بما خلفوه من الغنائم. وحين رآها الرماة، وإخوانهم المسلمون ينتهبونها دونهم عصَف بهم ريح الطمع، واختلفوا فيما بينهم، وقال بعضهم: ما بقاؤنا هنا؟ وتجاهلوا وصية النبي وتشديده عليهم بالبقاء. فقال لهم أميرهم عبد الله بن جبير: امكثوا ولا تخالفوا أمر الرسول (صلى الله عليه وسلم).. ولكن أكثرهم غادروا مواقعهم هابطين الى انتهاب الأسلاب والأموال، وتركوا أميرهم عبد الله في نفر دون العشرة، والى هذا التنازع والعصيان يشير قوله تعالى: { حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ }. أما قوله: { مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } فيشير الى انهزام المشركين وغنائمهم.
وكان خالد بن الوليد يحارب النبي (صلى الله عليه وسلم) مع أبي سفيان، وحين رأى مؤخرة المسلمين مكشوفة بعد أن أخلاها الرماة اغتنم الفرصة، وانقضّ مع جماعة من المشركين على البقية الباقية من الرماة، وقاتل هؤلاء بشجاعة وحرارة، حتى استشهدوا جميعاً، وخلا ظهر المسلمين، ورجع المشركون الى الميدان، وأحاطوا بالمسلمين من الخلف والأمام، وأكثروا فيهم القتل والجراح، ودارت الدائرة عليهم بعد ان كانت لهم.. وهذه هي النتيجة الحتمية للتنازع والتخاصم.
{ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا }. وهم الرماة الذين تركوا مقاعدهم طمعاً بالغنيمة. { وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ }. وهم الذين ثبتوا مكانهم مع أميرهم عبد الله بن جبير حتى نالوا الشهادة. { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ }. أي ردكم عن الكفار بعد أن نصركم عليهم بسبب تنازعكم وعصيانكم. { لِيَبْتَلِيَكُمْ }. أي عاملكم معاملة من يمتحنكم ليظهر ثباتكم على الايمان، وصبركم على الشدائد، ويميز بين المخلصين والمنافقين. { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ }. وكثيراً ما يخطىء الإنسان عن طيش، ثم يؤوب الى رشده، فيعفو الله عما سلف منه، أما من عاد فينتقم الله منه.