خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٣٨
فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٣٩
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٤٠
-المائدة

تيسير التفسير

النكال: العقاب. او العبرة، { فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا } [البقرة:66].
بعد أن بيّن سبحانه عقاب الذين "يحاربون الله ورسوله"، وأمر بتقوى الله، وابتغاء الوسيلة والجهاد في سبيله ـ ذكّرنا بعقاب اللصوص السارقين. وقد جمع في هذه الآيات الكريمة بين الوازع الداخلي وهو الايمان والصلاح، والوازع الخارجي وهو الخوف من العقاب والنكال.
يا ولاة الأمور، اقطعوا يد من يسرق مِن الكف الى الرسغ. وذلك لأن السرقة تحصل بالكف مباشرة. وتُقطع اليد اليمنى أولاً لأن التناول يكون بها في الغالب.
والسرقة هي أخذُ مال الغير المحرَزِ خفيةً، فلا بد ان يكون المسروق مالاً مقوَّما. والمبلغ المتفق بينَ فقهاء المسلمين على عقوبة سرقته هو ربعُ دينار. ولا بد أن يكون هذا المالُ محفوظاً في دار او مخزن, وان يأخذه السارق من هناك. فلا قطع مثلاً على المؤتمن على مالٍ إذا سرقه او أنكره. وكذلك الخادم المأذون له بدخول البيت لا يُقطع فيما يسرق. ولا على المستعير اذا جَحَد العارية. ولا على سارق الثمار في الحقل. ولا على المال خارج البيت او الصندوق المعد لصيانته.
ولا قطْع حين يسرق الشريكُ من مال شريكه، ولا على الذي يسرق من بيت مال المسلمين. وعقوبة هؤلاء هي التعزير او الحبس او ما يراه القاضي.
والشُبهة تَدرأ الحدَّ، فشبهة الجوع والحاجة تدرأه، وشبهة الشركة في المال تدرأه، ورجوع المعترف وتوبته تدرأ. وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام
"إدرأوا الحُدودَ بالشُبُهات" وفي ذلك يقول سيدنا عمر بن الخطاب: "لأَنْ أَعطِّلَ الحدودَ بالشُبهاتِ أحبُّ إليَّ من أن أقيمَها بالشُبُهات".
والعقوبة هنا على السرقة الصريحة، أمّا السرقة الضمنية، كالالتواء في التجارة وسرقة أقوات الشعب بتهريب الأموال الى خارج دار الاسلام ـ فلها أحكام أخرى.
والاسلام يكفل حق كل فرد من الحصول على ضرورات الحياة، فمن حق كل فرد (حتى غير المسلم) الحصولُ على ضرورات الحياة، أن يأكل ويشرب ويلبس ويكون له بيت يؤويه، وان يوفَّر له العمل ما دام قادراً. فإذا تعطَّل لعدم وجود العمل، او لعدم قدرته على العمل ـ فله الحق بأن تؤمِّن له الدولة الضروري من العيش. فاذا سرق وهو مكفيّ الحاجة، فإنه لا يُعذر، ولا ينبغي لأحد ان يرأف به.
فأما حين توجد شُبهة من حاجة أو غيرها، فالمبدأ العام في الاسلام هو درءُ الحدود بالشُبهات. ولذلك لم يوجِب سيدنا عمر القطعَ في عام الرّمادَة حيث عمَتِ المجاعة. كذلك لم يقطع عندما سرق غلمانُ حاطبٍ بن أَبي بلتعة ناقةً رجل من مزينة ثم تبين للخليفة ان سيِّدهم يتركهم جياعاً.
هكذا يجب ان نفهم الحدودَ في الاسلام: يضع الضمانات للجميع، ويتخذ أسباب الوقاية قبل العقوبة.
{ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } عزيز في انتقامه من السارق وغيره من اهل المعاصي، حكيم في وضعه الحدود والعقوبات بما تقتضي المصلحة.
قال الأصمعي: كنت أقرأ سورة المائدة ومعي أعرابي، فقرأت هذه الآية فقلت "والله غفور رحيم" سهواً. فقال الأعرابي: كلام من هذا؟ قلت: كلام الله. قال: أعِد، فأعدت. ثم تنبّهت فقلت "والله عزيز حكيم". فقال: الآن أصبت فقلت: كيف عرفت؟ قال: يا هذا "عزيز حكيم" فأمَرَ بالقطع، ولو غفر ورحم لما أمر به. فقد فهم الاعرابي ان مقتضى العزة والحكمة غير مقتضى المغفرة والرحمة.
{ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ... }.
فمن تاب عن السرقة بعد ظلمه لنفسه باقترافها، وأصلح إيمانه بفعل الخير ـ فإن الله يقبل توبته ويغفر به.
ولا يسقط الحد عن التائب، ولا تصحّ التوبة الا بإعادة المال المسروق بعينه ان كان باقيا أو دفعِ قيمته إن هلك.
ثم بيّن الشارع أن عقاب السراق والعفَو عن التائبين جاء وفق الحكمة والعدل والرحمة فقال: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ... } يدبّره بحكمته وعدله. ومن حكمته ان وضَع هذا العقاب لمن يسرق، كما وضع العقاب للمحاربين المفسدين في الأرض، وأنه يغفر للتائبين من هؤلاء وهؤلاء اذا صدقوا التوبة. انه يعذّب العاصي تربية له، وتأميناً للعباد من أذاه وشره. كما يرحم التائب بالغفران ترغيباً له.