خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ
٣٨
إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٣٩
إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٤٠
-التوبة

تيسير التفسير

انفروا في سبيل الله: أقدموا على الجهاد وأسرعوا في الخروج اليه. اثاقلتم: تباطأتم. في الغار: الغار هنا هو غار ثور الذي لجأ اليه النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه ابو بكر رضي الله عنه يوم الهجرة. سكينته: سكون النفس وطمأنينتها.
الكلام من هنا الى أواخر السورة في غزوة تبوك، وما لابسَها من هتك ستر المنافقين وضعفاء الايمان، وتطهير قلوب المؤمنين من عوامل الشقاق. وهناك بعض الأحكام تخلّلت الآياتِ جرياً على سُنة القرآن في أسلوبه الحكيم.
ومناسبة الآيات لِما قبلها ان الكلام السابق كان في حُكْم مشاكلِ اليهود، وبيانِ حقيقة أحوالِهم المنحرفة، وبيانِ بعض عقائد العرب في الجاهلية وإبطالها.
والكلام هنا في غزوة تبوك، ومواجهة الروم ومن يشايعهم من عرب الشام، وجميعهم نصارى. وكانت المعركة في رجبَ، سنةَ تسعٍ للهجرة، المصادف لشهر تشرين الثاني.
وتبوك موضع في منتصف الطريق بين المدينة، ودمشق، تبعد عن المدينة حوالي 600 كيلو متر، وعن دمشق حوالى 700 كيلوا متر.
كان مُلك الروم يشمل بلاد الشام، وسمعوا بقوة الإسلام، فخاف ملكهم هِرقْل على دولته. لذلك بادر الى جمع الجيوش ليهاجم المسلمين في دراهم. وقد نقل هذه الاخبار عددٌ من التجار الآتين من بلاد الشام، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس واستنفرهم الى قتال الروم. وتجهّز المسلمون حتى اجتمع جيشٌ كبير بلغ ثلاثين الفا. وقد تبارى المسلمون في البذل والعطاء، فدفع عثمان بن عفان رضي الله عنه الف دينار، وجاء أبو بكر بكل ما يملك، وجاء عمر بنِصف ما يملك، وتطوع الناس بقدر ما يستطيعون.
كان الوقت في أواخر الصيف والحر الشديد، والسفر طويل وشاق، ولذلك سُميت غزوة العُسْرة. كانت الثمار قد طابت بعد نضجها، والناس يحبّون المقام لجمع ثمارهم، ويكرهون الشخوص آنذاك، ومن هنا تخلّف المنافقون وتعّللوا بشتى المعاذير. وكان بينهم اربعة من كبار الصحابة هم: كعب بن مالك، وهلال بن امية، ومرارة بن الربيع، وابو خيثمة، وجاء أبو خيثمة الى داره فوجد زوجتَيه قد مهّدتا له الفراش، وهيّأتا له كل سبيل للراحة، فلما وجد كل هذه الرفاهية في منزله قال: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الضِحّ (الشمس) والريح والحر، وأبو خيثمة في ظلٍّ بارد، وطعام مهيّأ، وامرأة حسناء، وفي ماله مقيم! ما هذا بالنَصَف. ثم هيّأ نفسه ولحق بالرسول وجيشه.
وسيأتي خبر إخوانه الثلاثة الذين خُلّفوا فيما بعد.
ومضى الجيش حتى وصل تبوك ولم يلقَ حربا، وقد عقدت صلحاً مع حاكم تبوك وبعض حاميات الحدود، وعاد الرسول وجيشه الى المدينة. واستغرقت هذه الرحلة نحو عشرين يوما.
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ }.
يا أيها المؤمنون، ما لَكُم حِينما نَدَبكم الرسولُ الى الجهاد في سبيل الله تباطَأَ بعضُكم عن الخروج، وأخلّدوا للراحة واللذة!
وكان من أسباب تثاقُلهم ما روى ابن جرير عن مجاهِد قال: اُمِروا بغزوة تبوك بعد الفتح وبعد حُنين وبعد الطائف، اُمروا بالنفير في الصيف حين اخْتُرِفَت النخل (قُطفت) وطابت الثمار، واشتهوا الظلال، وشق عليهم الخروج، فقالوا: منا الثقيلُ وذو الحاجة والشغل، والمنتشِر به أمْرُه في ذلك كله.
{ أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ }.
هل آثرتم لذّات الدنيا الفانية على سعادة الآخرة الكاملة، ونعيمها الدائم!؟ ما هذا الذي تتمتعون به في الدنيا وما لذائذها المشوبة بالمنغّصات إلا تافهاً أمام متاع الآخرة العريض! انه لا يرضى به عاقل ولن يقبله.
روى أحمد ومسلم والترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله:
"ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعلُ إصبعَه هذه في اليمّ، فلينظْر بِمَ ترجع - واشار بالسبّابة" .
{ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً }.
إن لم تستجيبوا للرسول، فتخرجُوا للجهاد يعذّبكم الله عذاباً أليما في الدنيا يهلككم به، ويستبدل بكم قوماً آخرين، يطيعونه ولا يتخلّفون عن الجهاد. إنكم لا تضرون الله بهذا التخلف شيئا.
{ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
قادر لا يُعجزه عقابكم ولا نُصره دِينه بغيركم: كما قال تعالى
{ { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم } [محمد: 38].
ثم بعد ذلك رغّبهم في الجهاد وبيَّن لهم أنه تعالى هو الذي ينصر نبيّه على أعداء دينه، سواء أعانوه ام لم يفعلوا، وهو سبحانه قد فعل ذلك والرسول في قلّة من العدد، والعُدوُّ في كثرة، فيكف واصحابه الآن كثيرون، والعدوُّ قليل!!.
{ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا }.
ان لم تنصروا رسولَ الله فإن الله كفيلٌ بذلك. فلقد أيَده ونَصره حين أجمعَ كفّار قريش على قتله، واضطروه الى الخروج من مكة مهاجراً، وليس معه الا أبو بكر ثانيَ اثنين في الغار. والغارُ هو غار ثَوْر على ساعةٍ من مكة الى جهة اليَمَن. وقد مكثا فيه ثلاث ليالٍ، وبينما هما في الغار اقتفى اثرهما نفر من المشركين، فخاف ابو بكر على حياة الرسول، فقال له رسول الله: لا تحزن إن الله معنا، ولن يصلوا الينا.
روى الامام أحمد البخاري ومسلم عن أنَس قال:
"حدثني ابو بكر قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، فنظرتُ الى أقومِ المشركين، وهم على رؤوسنا فقلت: يا رسولَ الله، لو ان أحدَهم نَظَر الى قدميه لأَبصرَنا تحت قدميه. فقال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثُهما"
؟ { فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا }.
عند ذلك انزل الله الطمأنينة على رسوله، وأيّده بجنود من عنده لا يعلمهم إلا هو سبحانه، انتهى الأمرُ بأن جعَلَ كلمةَ الشِرك وشوكتَهم هي السفلى، وكلمةُ الله وهي دينُه، هي العليا بظهور نور الاسلام.
{ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
والله متّصفٌ بالعِزة لا يُقهر، حكيم إذ يضع الأمورَ في مواضعِها. توقد اقتضت حكمتُه ان ينصر نبيه بعزّته، ويُظهر دينه على جميع الأديان.
قراءات:
قرأ يعقوب "وكلمة الله" بالنصب، والباقون بالرفع.