خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَٱرْهَبُونِ
٥١
وَلَهُ مَا فِي ٱلْسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ
٥٢
وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ
٥٣
ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ
٥٤
لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
٥٥
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ تَٱللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ
٥٦
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ٱلْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ
٥٧
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِٱلأُنْثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ
٥٨
يَتَوَارَىٰ مِنَ ٱلْقَوْمِ مِن سُوۤءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي ٱلتُّرَابِ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ
٥٩
لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ مَثَلُ ٱلسَّوْءِ وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٦٠
وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّىٰ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ
٦١
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ ٱلْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْحُسْنَىٰ لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْنَّارَ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ
٦٢
تَٱللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ ٱلْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٦٣
وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
٦٤
وَٱللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ
٦٥
وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ
٦٦
وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
٦٧
وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ
٦٨
ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ فَٱسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
٦٩
وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ
٧٠
وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلْرِّزْقِ فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ أَفَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ
٧١
وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ ٱللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ
٧٢
وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ
٧٣
فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ ٱلأَمْثَالَ إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
٧٤
-النحل

صفوة التفاسير

المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى أن كل ما في الكون منقادٌ لأمر الله، خاضعٌ لسلطانه، أمر هنا بإِفراده بالعبادة لأنه الخالق الرازق، ثم ضرب الأمثال في ضلالات أهل الجاهلية، وذكَّر الناس بنعمه الجليلة ليعبدوه ويشكروه.
اللغَة: { وَاصِباً } دائماً ولازماً قال الجوهري: وصبَ الشيء وصوباً أي دام ومنه
{ { وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ } [الصافات: 9] أي دائم وقال الشاعر:

"وهزيمٌ ردعه واصب"

{ تَجْأَرُونَ } الجؤار: رفع الصوت بالدعاء والتضرع يقال: جأر أي صاح قال الأعشى يصف بقرة:

فطافت ثلاثاً بينَ يومٍ وليلةٍ وكانَ النكيرُ أن تُطيف وتجْأَرا

{ كَظِيمٌ } ممتلئ غماً وغيظاً، والكظم أن يطبق الفم فلا يتكلم من الغيظ { يَتَوَارَىٰ } يختفي { هُونٍ } هَوانٍ وذُل { فَرْثٍ } الفرْثُ: الزبل الذي ينزل إِلى الكَرش أو المِعَى { سَآئِغاً } لذيذاً هيناً لا يغصُّ به من شربه { ذُلُلاً } جمع ذلول وهو المنقاد المسخَّر بلا عناء { حَفَدَةً } الحفدة: قال الأزهري أولاد الأولاد، والحفدة: الخدم والأعوان.
التفسِير: { وَقَالَ ٱللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ } أي لا تعبدوا إِلهين فإِن الإِله الحق لا يتعدد { إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ } أي إِلهكم واحد أحد فردٌ صمد { فَإيَّايَ فَٱرْهَبُونِ } أي خافون دون سواي { وَلَهُ مَا فِي ٱلْسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي ملكاً وخلقاً وعبيداً { وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِباً } أي له الطاعة والانقياد واجباً ثابتاً فهو الإِله الحق، وله الطاعة خالصة { أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ } الهمزة للإِنكار والتوبيخ أي كيف تتقون وتخافون غيره، ولا نفع ولا ضر إِلا بيده؟ { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ } أي ما تفضَّل عليكم أيها الناس من رزقٍ ونعمةٍ وعافيةٍ ونصر فمن فضلِ الله وإِحسانه { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } أي ثم إِذا أصابكم الضُّرُ من فقرٍ ومرضٍ وبأساء فإِليه وحده ترفعون أصواتكم بالدعاء، والغرض أنكم تلجأون إِليه وحده ساعة العسرة والضيق، ولا تتوجهون إِلا إِليه دون الشركاء { ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } أي إِذا رفع عنكم البلاء رجع فريق منكم إِلى الإِشراك بالله قال القرطبي: ومعنى الكلام التعجيبُ من الإِشراك بعد النجاة من الهلاك { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ } أي ليجحدوا نعمته تعالى من كشف الضر والبلاء { فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } أي تمتعوا بدار الفناء فسوف تعلمون عاقبة أمركم وما ينزل بكم من العذاب، وهو أمرٌ للتهديد والوعيد { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ } أي يجعلون للأصنام التي لا يعلمون ربوبيتها ببرهان ولا بحجة نصيباً من الزرع والأنعام تقرباً إِليها { تَٱللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ } أي والله أيها المشركون لتُسألنَّ عما كنتم تختلقونه من الكذب على الله، والمراد سؤال توبيخٍ وتقريع { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ٱلْبَنَاتِ } أي ومن جهل هؤلاء المشركين وسفاهتهم أن جعلوا الملائكة بنات الله، فنسبوا إِلى الله البنات وجعلوا لهم البنين { سُبْحَانَهُ } أي تنزَّه الله وتعظَّم عن هذا الإِفك والبهتان { وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } أي ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون من البنين مع كراهتهم أنهم يأنفون من البنات { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِٱلأُنْثَىٰ } أي إِذا أُخبر أحدهم بولادة بنت { ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً } أي صار وجهه متغيراً من الغم والحزن قال القرطبي: وهو كناية عن الغم والحزن وليس يريد السواد، والعربُ تقول لكل من لقي مكروهاً قد اسودَّ وجهه { وَهُوَ كَظِيمٌ } أي مملوءٌ غيظاً وغماً { يَتَوَارَىٰ مِنَ ٱلْقَوْمِ مِن سُوۤءِ مَا بُشِّرَ بِهِ } أي يختفي من قومه خوفاً من العار الذي يلحقه بسبب البنت، كأنها بليَّة وليست هبةً إِلهية، ثم يفكر فيما يصنع { أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي ٱلتُّرَابِ } أي أيمسك هذه الأنثى على ذلٍ وهوان أم يدفنها في التراب حية؟ { أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي ساء صنيعهم وساء حكمهم، حيث نسبوا لخالقهم البنات - وهي عندهم بتلك الدرجة من الذل والحقارة - وأضافوا البنين إِليهم، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً { لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ مَثَلُ ٱلسَّوْءِ } أي لهؤلاء الذين لم يصدّقوا بالآخرة ونسبوا للهِ البنات سفهاً وجهلاً، صفةُ السوء القبيحة التي هي كالمثل في القبح، فالنقصُ إنما ينسب إِليهم لا إِلى الله { وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ } أي له جل وعلا الوصف العالي الشأن، والكمال المطلق، والتنزه عن صفات المخلوقين { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } أي العزيزُ في ملكه، الحكيمُ في تدبيره ثم أخبر تعالى عن حلمه بالعباد مع ظلمهم فقال { وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ } أي لو يؤاخذهم بكفرهم ومعاصيهم ويعاجلهم بالعقوبة { مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ } أي ما ترك على الأرض أحداً يدبُّ على ظهرها من إِنسانٍ وحيوان { وَلٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّىٰ } أي ولكنْ يؤخرهم إِلى وقتٍ معيَّن تقتضيه الحكمة { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } أي فإِذا جاء الوقت المحدَّد لهلاكهم لا يتأخرون برهةً يسيرةً من الزمن ولا يتقدمون عليها كقوله
{ { وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً } [الكهف: 59] { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ } أي يجعلون له تعالى البنات مع كراهتهم لهنَّ، وهو تأكيد لما سبق للتقريع والتوبيخ { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ ٱلْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْحُسْنَىٰ } أي يجعلون لله ما يجعلون ومع ذلك يزعمون أنَّ لهم العاقبة الحسنى عند الله وأنهم أهل الجنة { لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْنَّارَ } أي حقاً إِنَّ لهم مكان ما أملّوا نار جهنم التي ليس وراء عذابها عذاب { وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ } أي معجَّلون إِليها ومُقدَّمون، ثم ذكر تعالى نعمته في إِرسال الرسل ليتأسى صلوات الله عليه بهم في الصبر على تحمل الأذى فقال { تَٱللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } أي والله لقد بعثنا قبلك يا محمد رسلاً إِلى أقوامهم فحسَّن الشيطان أعمالهم القبيحة حتى كذبوا الرسل وردّوا عليهم ما جاءوهم به من البينات { فَهُوَ وَلِيُّهُمُ ٱلْيَوْمَ } أي فالشيطان ناصرهم اليوم في الدنيا وبئس الناصر { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي ولهم في الآخرة عذاب مؤلم { وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } أي ما أنزلنا عليك القرآن يا محمد إلا لتبيِّن للناس ما اختلفوا فيه من الدين والأحكام لتقوم الحجة عليهم { وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي وأنزلنا القرآن هدايةً للقلوب، ورحمة وشفاءً لمن آمن به، ثم ذكر تعالى عظيم قدرته الدالة على وحدانيته فقال { وَٱللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ } أي أنزل بقدرته الماء من السحاب فأحيا بذلك الماء النبات والزرع بعد جدب الأرض ويُبسها { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } أي إِن في هذا الإِحياء لدلالةً باهرة على عظيم قدرته لقوم يسمعون التذكير فيتدبرونه ويعقلونه { وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً } أي وإِنَّ لكم أيها الناس في هذه الأنعام "الإِبل والبقر والضأن والمعز" لعظةً وعبرة يعتبر بها العقلاء، ففي خلقها وتسخيرها دلالة على قدرة الله وعظمته ووحدانيته { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } أي نسقيكم من بعض الذي في بطون هذه الأنعام { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً } أي من بين الروث والدم ذلك الحليب الخالص واللبن النافع { سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ } أي سهل المرور في حلقهم، لذيذاً هيناً لا يغصُّ به من شربه { وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً } أي ولكم مما أنعم الله به عليكم من ثمرات النخيل والأعناب ما تجعلون منه خمراً يسكر قال الطبري: وإِنما نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر ثم حُرِّمتْ بعد { وَرِزْقاً حَسَناً } كالتمر والزبيب قال ابن عباس: الرزق الحسن: ما أُحلَّ من ثمرتها، والسَّكر: ما حُرِّم من ثمرتها . { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي لآيةً باهرة، ودلالة قاهرة على وحدانيته سبحانه لقومٍ يتدبرون بعقولهم قال ابن كثير: وناسب ذكرُ العقل هنا لأنه أشرفُ ما في الإِنسان، ولهذا حرَّم الله على هذه الأمة الأشربة المسكرة صيانةً لعقولها، ولما ذكر تعالى ما يدل على باهر قدرته، وعظيم حكمته من إِخراج اللبن من بين فرثٍ ودمٍ وإِخراج الرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب، ذكر إِخراج العسل الذي جعله شفاءً للناس من النحل، وهي حشرةٌ ضعيفة وفيها عجائب بديعة وأمور غريبة، وكل هذا يدل على وحدانية الصانع وقدرته وعظمته فقال تعالى { وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } المراد من الوحي: الإِلهامُ والهدايةُ أي ألهمها مصالحها وأرشدها إِلى بناء بيوتها المسدَّسة العجيبة تأوي إِليها في ثلاثة أمكنة: الجبال، والشجر، والأكوار التي يبنيها الناس { ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ } أي كلي من كل الأزهار والثمار التي تشتهينها من الحلو، والمر، والحامض، فإِن الله بقدرته يحيلها إِلى عسلٍ { فَٱسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً } أي أدخلي الطرق في طلب المرعى حال كونها مسخرةً لك لا تضلين في الذهاب أو الإِياب { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } أي يخرج من بطون النحل عسلٌ متنوعٌ منه أحمر، وأبيض، وأصفر، فيه شفاءٌ للناس من كثيرٍ من الأمراض قال الرازي فإن قالوا: كيف يكون شفاءٌ للناس وهو يضر بالصفراء؟ فالجواب أنه تعالى لم يقل: إِنه شفاءٌ لكل الناس، ولكل داء، وفي كل حال، بل لّما كان شفاء للبعض ومن بعض الأدواء صلح بأن يوصف بأنَّ فيه شفاء { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي لعبرة لقومٍ يتفكرون في عظيم قدرة الله، وبديع صنعه { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ } أي خلقكم بقدرته بعد أن لم تكونوا شيئاً ثم يتوفاكم عند انقضاء آجالكم { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ } أي يُردُّ إِلى أردء وأضعف العمر وهو الهَرم والخرف { لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً } أي لينسى ما يعلم فيشبه الطفل في نقصان القوة والعقل { إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } أي عليمٌ بتدبير خلقه، قديرٌ على ما يريده، فكما قدر على نقل الإِنسان من العلم إِلى الجهل، فإِنه قادر على إِحيائه بعد إِماتته قال عكرمة: من قرأ القرآن لم يُردَّ إلى أرذل العمر { وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلْرِّزْقِ } أي فاوت بينكم في الأرزاق فهذا غنيٌّ وذاك فقير، وهذا مالكٌ وذاك مملوك { فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } أي ليس هؤلاء الأغنياء بمشركين لعبيدهم المماليك فيما رزقهم الله من الأموال حتى يستووا في ذلك مع عبيدهم، وهذا مثلٌ ضربه الله تعالى للمشركين قال ابن عباس: لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم، فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني؟ { أَفَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } الاستفهام للإِنكار أي أيشركون معه غيره وهو المنعم المتفضل عليهم؟ { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } أي هو تعالى بقدرته خلق النساء من جنسكم وشكلكم ليحصل الائتلاف والمودة والرحمة بينكم { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً } أي جعل لكم من هؤلاء الزوجات الأولاد وأولاد الأولاد، سمّوا حفدة لأنهم يخدمون أجدادهم ويسارعون في طاعتهم { وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ } أي رزقكم من أنواع اللذائذ من الثمار والحبوب والحيوان { أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ ٱللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ } أي أبعد تحقق ما ذُكر من نعم الله يؤمنون بالأوثان ويكفرون بالرحمن؟ وهو استفهام للتوبيخ والتقريع { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ شَيْئاً } أي ويعبد هؤلاء المشركون أوثاناً لا تقدر على إِنزال مطر، ولا على إِخراج زرعٍ أو شجر، ولا تقدر أن ترزقهم قليلاً أو كثيراً { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } أي ليس لها ذلك ولا تقدر عليه لو أرادت { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ ٱلأَمْثَالَ } أي لا تمثّلوا لله الأمثال، ولا تشبّهوا له الأشباه، فإنه تعالى لا مثل له ولا نظير ولا شبيه { إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } أي يعلم كل الحقائق، وأنتم لا تعلمون قدر عظمة الخالق.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة من صنوف البيان والبديع ما يلي:
1- الالتفات من التكلم إلى الغيبة من الغيبة إلى المتكلم { فَإيَّايَ فَٱرْهَبُونِ } لتربية المهابة والرهبة في القلوب مع إفادة القصر أي لا تخافوا غيري.
2- الطباق في { يَسْتَقْدِمُونَ ... يَسْتَأْخِرُونَ } وفي { فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ } وفي { يُؤْمِنُونَ ... ويَكْفُرُونَ }.
3- الجناس الناقص بين { كُلِي مِن كُلِّ }.
4- الاعتراض { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ٱلْبَنَاتِ } - سبحانه - { وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } فلفظة (سبحانه) معترضة لتعجيب الخلق من هذا الجهل القبيح.
5- صيغة المبالغة في { ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } و { عَلِيمٌ قَدِيرٌ }.
6- السجع { يَعْقِلُونَ، يَعْرِشُونَ، يَجْحَدُونَ، يَكْفُرُونَ }.
7- التهديد والوعيد { فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }.
8- قوله تعالى { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ ٱلْكَذِبَ } قال الشهاب: هذا من بليغ الكلام وبديعه أي ألسنتهم كاذبة كقولهم { عينُها تصفُ السحر } أي ساحرة، وقدُّها يصف الهيف أي هيفاء.