خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلْكِتَابِ وَٱلنَّبِيِّينَ وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلاةَ وَآتَى ٱلزَّكَاةَ وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَٱلصَّابِرِينَ فِي ٱلْبَأْسَآءِ وٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلْبَأْسِ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ
١٧٧
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ
١٧٨
وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
١٧٩
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ
١٨٠
فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
١٨١
فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٨٢
-البقرة

صفوة التفاسير

المنَاسَبَة: من هنا بداية النصف الثاني من السورة الكريمة على وجه التقريب، ونصف السورة السابق كان متعلقاً بأصول الدين وبقبائح بني إِسرائيل، وهذا النصف غالبه متعلق بالأحكام التشريعية الفرعية، ووجه المناسبة أنه تعالى ذكر في الآية السابقة أنّ أهل الكتاب اختلفوا في دينهم اختلافاً كبيراً صاروا بسببه في شقاق بعيد، ومن أسباب شقاقهم أمر القبلة إِذ أكثروا الخوض فيه وأنكروا على المسلمين التحول إِلى استقبال الكعبة، وادّعى كلٌ من الفريقين - اليهود والنصارى - أن الهدى مقصور على قبلته، فردّ الله عليهم بين أن العبادة الحقة وعمل البرّ ليس بتوجه الإِنسان جهة المشرق والمغرب، ولكن بطاعة الله وامتثال أوامره وبالإِيمان الصادق الراسخ.
اللغَة: { ٱلْبِرَّ } اسم جامع للطاعات وأعمال الخير { ٱلرِّقَابِ } جمع رقبة وهي في الأصل العُنقُ، وتطلق على البدن كله كما تطلق العين على الجاسوس والمراد في الآية الأسرى والأرقاء { ٱلْبَأْسَآءِ } الفقر { ٱلضَّرَّاءِ } السُّقم والوجع { ٱلْبَأْسِ } القتال وأصل البأس في اللغة: الشدّة { كُتِبَ } فرض { ٱلْقِصَاصُ } العقوبة بالمثل من قتل أو جرح مأخوذ من القصّ وهو تتبع الأثر
{ { وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ } [القصص: 11] أي اتبعى أثره { ٱلْقَتْلَى } جمع قتيل يستوي فيه المذكر والمؤنث يقال: رجل قتيل وامرأة قتيل { ٱلأَلْبَابِ } العقول جمع لب مأخوذ من لبّ النخلة { إِثْماً } الإِثم: الذنب { جَنَفاً } الجنف: العدول عن الحق على وجه الخطأ.
سَبَبُ النّزول: عن قتادة أن أهل الجاهلية كان فيهم بغيٌ وطاعةٌ للشيطان، وكان الحيُّ منهم إِذا كان فيهم منعة فقتل عبدُهم عبد آخرين قالوا لن نقتل به إِلا حراً، وإِذا قتلت امرأةٌ منهم امرأةً من آخرين قالوا لن نقتل بها إِلا رجلاً فأنزل الله { ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ }.
التفسِير: { لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ } أي ليس فعلُ الخير وعملُ الصالح محصوراً في أن يتوجه الإِنسان في صلاته جهة المشرق أو المغرب { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } أي ولكنَّ البِرَّ الصحيح هو الإِيمان بالله واليوم الآخر { وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلْكِتَابِ وَٱلنَّبِيِّينَ } أي وأن يؤمن بالملائكة والكتب والرسل { وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي ٱلْقُرْبَىٰ } أي أعطى المال على محبته له ذوي قرابته فهم أولى بالمعروف { وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ } أي وأعطى المال أيضاً لليتامى الذين فقدوا آباءهم والمساكين الذين لا مال لهم، وابن السبيل المسافر المنقطع عن ماله { وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ } أي الذين يسألون المعونة بدافع الحاجة وفي تخليص الأسرى والأرقاء بالفداء { وَأَقَامَ ٱلصَّلاةَ وَآتَى ٱلزَّكَاةَ } أي وأتى بأهم أركان الإِسلام وهما الصلاة والزكاة { وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ } أي ومن يوفون بالعهود ولا يخلفون الوعود { وَٱلصَّابِرِينَ فِي ٱلْبَأْسَآءِ وٱلضَّرَّاءِ وَحِينَ ٱلْبَأْسِ } أي الصابرين على الشدائد وحين القتال في سبيل الله وهو منصوب على المدح { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ } أي أهل هذه الأوصاف هم الذين صدقوا في إِيمانهم وأولئك هم الكاملون في التقوى، وفي الآية ثناء على الأبرار وإِيحاء إِلى ما يلاقونه من اطمئنان وخيراتٍ حسان. { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى } أي فرض عليكم أن تقتصوا للمقتول من قاتله بالمساواة دون بغي أو عدوان { ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ } أي اقتصوا من الجاني فقط فإِذا قتل الحرُّ الحرَّ فاقتلوه به، وإِذا قتل العبد العبد فاقتلوه به، وكذلك الأنثى إِذا قتلت الأنثى، مثلاً بمثلٍ ولا تعتدوا فتقتلوا غير الجاني، فإِن أخذ غير الجاني ليس بقصاص بل هو ظلم واعتداء { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } أي فمن تُرك له من دم أخيه المقتول شيء، بأن ترك وليُّه القود وأسقط القصاص راضياً بقبول الدية { فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } أي فعلى العافي اتباعٌ للقاتل بالمعروف بأن يطالبه بالدية بلا عنفٍ ولا إِرهاق، وعلى القاتل أداءٌ للدية إِلى العافي - ولي المقتول - بلا مطل ولا بخس { ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } أي ما شرعته لكم من العفو إِلى الدية تخفيف من ربكم عليكم ورحمة منه بكم، ففي الدية تخفيف على القاتل ونفعٌ لأولياء القتيل، وقد جمع الإِسلام في عقوبة القتل بين العدل والرحمة، فجعل القصاص حقاً لأولياء المقتول إِذا طالبوا به وذلك عدل، وشرع الديه إِذا أسقطوا القصاص عن القاتل وذلك رحمة { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي فمن اعتدى على القاتل بعد قبول الدية فله عذاب أليم في الآخرة { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ } أي ولكم - يا أولي العقول - فيما شرعت من القصاص حياةٌ وأيُّ حياة لأنه من علم أنه إِذا قتل نفساً قُتل بها يرتدع وينزجر عن القتل، فيحفظ حياته وحياة من أراد قتله وبذلك تُصان الدماء وتحفُظ حياة الناس { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي لعلكم تنزجرون وتتقون محارم الله ومآثمه { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ } أي فرض عليكم إِذا أشرف أحدكم على الموت وقد ترك مالاً كثيراً { ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ } أي وجب عليه الإِيصاء للوالدين والأقربين { بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ } أي بالعدل بأن لا يزيد على الثلث وألا يوصي للأغنياء ويترك الفقراء، حقاً لازماً على المتقين لله وقد كان هذا واجباً قبل نزول آية المواريث ثم نسخ بآية المواريث { فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ } أي من غيَّر هذه الوصية بعد ما علمها من وصيّ أو شاهد { فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ } أي إِثم هذا التبديل على الذين بدّلوه لأنهم خانوا وخالفوا حكم الشرع { إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } فيه وعيد شديد للمبدِّلين { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً } أي فمن علم أو ظنَّ من الموصي ميلاً عن الحق بالخطأ { أَوْ إِثْماً } أي ميلاً عن الحق عمداً { فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } أي أصلح بين الموصي والموصَى له فلا ذنب عليه بهذا التبديل { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي واسع المغفرة والرحمة لمن قصد بعمله الإِصلاح.
البَلاَغَة: 1- { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ } جعل البرُّ نفس من آمن على طريق المبالغة وهذا معهود في كلام البلغاء إِذ تجدهم يقولون: السخاء حاتم، والشعر زهيرٌ أي أن السخاء سخاء حاتم، والشعر شعر زهير، وعلى هذا خرّجه سيبويه حيث قال في كتابه قال جلّ وعز: { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ } وإِنما هو ولكنَّ البر برُّ من آمن بالله انتهى ونظير ذلك أن تقول: ليس الكرم أن تبذل درهماً ولكنَّ الكرم بذل الآلاف فلا يناسب ولكنَّ الكريم من يبذل الآلاف.
2- { وَفِي ٱلرِّقَابِ } إِيجاز بالحذف أي وفي فك الرقاب يعني فداء الأسرى، وفي لفظ الرقاب "مجاز مرسل" حيث أطلق الرقبة وأراد به النفس وهو من إِطلاق الجزء وإِرادة الكل.
3- { وَٱلصَّابِرِينَ فِي ٱلْبَأْسَآءِ } الأصل أن يأتي مرفوعاً كقوله { وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ } وإِنما نصب على الاختصاص أي وأخصُّ بالذكر الصابرين وهذا الأسلوب معروف بين البلغاء فإِذا ذُكرت صفاتٌ للمدح أو الذم وخولف الإِعراب في بعضها فذلك تفننٌ ويسمى قطعاً لأن تغيير المألوف يدل على مزيد اهتمام بشأنه وتشويق لسماعه.
4- { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ } الجملة جاء الخبر فيها فعلاً ماضياً "صدقوا" لإِفادة التحقيق وأن ذلك وقع منهم واستقر، وأتى بخبر الثانية في جملة اسمية { أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ } ليدل على الثبوت وأنه ليس متجدداً بل صار كالسجية لهم ومراعاة للفاصلة أيضاً.
5- { حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ } ذكر المتقين من باب الإِلهاب والتهييج.
6- الطباق بين { ٱتِّبَاعٌ } و { أَدَآءٌ } وبين { ٱلْحُرُّ } و { ٱلْعَبْدُ }.
الفوَائِد: الأولى: في ذكر الأخوة تعطفٌ داع إِلى العفو فقد سمّى الله القاتل أخاً لولي المقتول { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } تذكيراً بالأخوَّة الدينية والبشرية حتى يهزّ عطف كل واحد منهما إِلى الآخر فيقع بينهم العفو والاتباع بالمعروف والأداء بالإِحسان.
الثانية: كان في بني إِسرائيل القصاص ولم يكن فيهم الدية، وكان في النصارى الدية ولم يكن فيهم القصاص، فأكرم الله هذه الأمة المحمدية وخيرّها بين القصاص والدية والعفو، وهذا من يسر الشريعة الغراء التي جاء بها سيَّد الأنبياء صلى الله عليه وسلم.
الثالثة: اتفق علماء البيان على أن هذه الآية { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ } بالغة أعلى درجات البلاغة، ونقل عن العرب في هذا المعنى قولهم: القتل أنفى للقتل، ولكنْ لورود الحكمة في القرآن فضلٌ من ناحية حسن البيان، وإِذا شئتَ أن تزداد خبرة بفضل بلاغة القرآن وسمو مرتبته على مرتبة ما نطق به بلغاء البشر فانظر إِلى العبارتين فإِنك تجد من نفحات الإِعجاز ما ينبهك لأن تشهد الفرق بين كلام الخالق وكلام المخلوق، أما الحكمة القرآنية فقد جعلت سبب الحياة القصاصُ وهو القتل عقوبةً على وجه التماثل، والمثل العربي جعل سبب الحياة القتلُ، ومن القتل ما يكون ظلماً فيكون سبباً للفناء وتصحيحُ العبارة أن يقال: القتل قصاصاً أنفى للقتل ظلماً، والآية جاءت خالية من التكرار اللفظي والمثل كرر فيه لفظ القتل فمسَّه بهذا التكرار من الثقل ما سلمت منه الآية، ومن الفروق الدقيقة بينهما أن الآية جعلت القصاص سبباً للحياة والمثل جعل القتل سبباً لنفي القتل وهو لا يستلزم الحياة الخ وقد عدّ العلماء عشرين وجهاً من وجوه التفريق بين الآية القرآنية واللفظة العربية وقد ذكرها السيوطي في الإِتقان فارجع إليه تجد فيه شفاء الغليل.