خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ٱلْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ بِٱلإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
١٨٨
يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰ وَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
١٨٩
وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ
١٩٠
وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَٱلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ
١٩١
فَإِنِ ٱنتَهَوْاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٩٢
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ للَّهِ فَإِنِ ٱنْتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ
١٩٣
ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ
١٩٤
وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ
١٩٥
-البقرة

صفوة التفاسير

المنَاسَبَة: لما بيّن تعالى في الآيات السابقة أحكام الصيام وأباح للمؤمنين الاستمتاع بالطعام والشراب والنكاح في ليالي رمضان عقّبه بالنهي عن أكل الأموال بغير حق لأن المسلم لا يصح له أن يستمتع بالمال الحرام لا في ليالي رمضان ولا غيره، ولما كان حديث الصيام يتصل برؤية الهلال وهذا ما يحرك في النفوس خاطر السؤال عن الأهلة جاءت الآيات الكريمة تبيّن أن الأهلة مواقيت لعبادات الناس في الصيام وسائر أنواع القربات.
اللغَة: { ٱلْبَاطِلِ } في اللغة: الزائل الذاهب يقال: بطل الشيء بطولاً فهو باطل وفي الشرع هو المال الحرام كالغصب والسرقة والقمار والربا { وَتُدْلُواْ } الإِدلاء في الأصل: إِرسال الدلو في البئر ثم جعل كل إِلقاء أو دفع لقول أو فعل إِدلاءً يقال: أدلى بحجته أي أرسلها والمراد بالإِدلاء هنا الدفع إِلى الحاكم بطريق الرشوة { ٱلأَهِلَّةِ } جمع هلال وهو أول حال القمر حين يراه الناس ثم يصبح قمراً ثم بدراً حين يتكامل نوره { مَوَاقِيتُ } جمع ميقات وهو الوقت كالميعاد بمعنى الوعد وقيل: الميقات منتهى الوقت { ثَقِفْتُمُوهُم } ثقِفَ الشيءَ إذا ظفر به ووجده على جهة الأخذ والغلبة، ورجل ثَقِفٌ سريع الأخذ لأقرانه قال الشاعر:

فإِمّا تثقفوني فاقتلوني فمنْ أَثْقفْ فليس إِلى خلود

{ ٱلتَّهْلُكَةِ } الهلاكُ يقال هَلَك يهلِكُ هَلاكاً وتَهْلُكةً.
سَبَبُ النّزول: روي أن بعض الصحابة قالوا يا رسول الله: ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوي ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا لا يكون على حالة واحدة كالشمس فنزلت { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ... } الآية.
ثانياً: روي أن الأنصار كانوا إذا أحرم الرجل منهم في الجاهلية لم يدخل بيتاً من بابه بل كان يدخل من نقبٍ في ظهره، أو يتخذ سُلّماً يصعد فيه فنزل قوله تعالى { وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا }.
التفسِير: { وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَاطِلِ } أي لا يأكل بعضكم أموال بعض بالوجه الذي لم يبحه الله { وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ٱلْحُكَّامِ } أي تدفعوها إِلى الحكام رشوة { لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ بِٱلإِثْمِ } أي ليعينوكم على أخذ طائفة من أموال الناس بالباطل { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أنكم مبطلون تأكلون الحرام { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ } أي يسألونك يا محمد عن الهلال لم يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يعظم ويستدير ثم ينقص ويدق حتى يعود كما كان؟ { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ } أي فقل لهم إِنها أوقات لعباداتكم ومعالم تعرفون بها مواعيد الصوم والحج والزكاة { وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا } أي ليس البر بدخولكم المنازل من ظهورها كما كنتم تفعلون في الجاهلية { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰ } أي ولكنَّ العمل الصالح الذي يقرّبكم من الله في اجتناب محارم الله { وَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } ادخلوها كعادة الناس من الأبواب { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي اتقوا الله لتسعدوا وتظفروا برضاه { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } أي قاتلوا لإِعلاء دين الله من قاتلكم من الكفار { وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ } أي لا تبدءوا بقتالهم فإِنه تعالى لا يحب من ظلم أو اعتدى، وكان هذا في بدء أمر الدعوة ثم نسخ بآية براءة
{ وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً } [الآية: 36] وقيل نسخ بالآية التي بعدها وهي قوله { وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم } أي اقتلوهم حيث وجدتموهم في حلّ أو حرم { وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } أي شرّدوهم من أوطانهم وأخرجوهم منها كما أخرجوكم من مكة { وَٱلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلْقَتْلِ } أي فتنة المؤمن عن دينه أشدُّ من قتله، أو كفر الكفار أشد وأبلغ من قتلكم لهم في الحرم، فإِذا استعظموا القتال فيه فكفرهم أعظم { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ } أي لا نبدءوهم بالقتال في الحرم حتى يبدءوا هم بقتالكم فيه { فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ } أي إِن بدءوكم بالقتال فلكم حينئذٍ قتالهم لأنهم انتهكوا حرمته والبادي بالشر أظلم { كَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ } أي هذا الحكم جزاء كل من كفر بالله { فَإِنِ ٱنتَهَوْاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي فإِن انتهوا عن الشرك وأسلموا فكفّوا عنهم فإِن الله يغفر لمن تاب وأناب { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ للَّهِ } أي قاتلوا المحاربين حتى تكسروا شوكتهم ولا يبقى شرك على وجه الأرض ويصبح دين الله هو الظاهر العالي على سائر الأديان { فَإِنِ ٱنْتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ } أي فإِن انتهوا عن قتالكم فكفوا عن قتلهم فمن قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم ولا عدوان إِلا على الظالمين، أو فإِن انتهوا عن الشرك فلا تعتدوا عليهم ثم بيّن تعالى أن قتال المشركين في الشهر الحرام يبيح للمؤمنين دفع العدوان فيه فقال { ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } أي إِذا قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم في الشهر الحرام، فكما هتكوا حرمة الشهر واستحلوا دماءكم فافعلوا بهم مثله { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ } أي ردوا عن أنفسكم العدوان فمن قاتلكم في الحرم أو في الشهر الحرام فقابلوه وجازوه بالمثل { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ } أي راقبوا الله في جميع أعمالكم وأفعالكم واعلموا أن الله مع المتقين بالنصر والتأييد في الدنيا والآخرة { وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } أي أنفقوا في الجهاد وفي سائر وجوه القربات ولا تبخلوا في الانفاق فيصيبكم الهلاك ويتقوى عليكم الأعداء وقيل معناه: لا تتركوا الجهاد في سبيل الله وتشتغلوا بالأموال والأولاد فتهلكوا { وَأَحْسِنُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } أي أحسنوا في جميع أعمالكم حتى يحبكم الله وتكونوا من أوليائه المقربين.
البَلاَغَة: 1- { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ } هذا النوع من البديع يسمى "الأسلوب الحكيم" فقد سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن الهلال لمَ يبدو صغيراً ثم يزداد حتى يتكامل نوره؟ فصرفهم إِلى بيان الحكمة من الأهلة وكأنه يقول: كان الأولى بكم أن تسألوا عن حكمة خلق الأهلة لا عن سبب تزايدها في أول الشهر وتناقصها في آخره، وهذا ما يسميه علماء البلاغة "الأسلوب الحكيم".
2- { ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ } فيه إِيجاز بالحذف تقديره: هتكُ حرمة الشهر الحرام تقابل بهتك حرمة الشهر الحرام ويسمى حذف الإِيجاز.
3- { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ } سمّي جزاء العدوان عدواناً من قبيل "المشاكلة" وهي الاتفاق في اللفظ مع الاختلاف في المعنى كقوله
{ { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى: 40] قال الزجاج: العرب تقول ظلمني فلان فظلمته أي جازيته بظلمه.
فَائِدَة: لا يذكر في القرآن الكريم لفظ القتال أو الجهاد إِلا ويقرن بكلمة "سبيل الله" وفي ذلك دلالة واضحة على أن الغاية من القتال غاية شريفة نبيلة هي إِعلاء كلمة الله لا السيطرة أو المغنم أَو الاستعلاء في الأرض أو غيرها من الغايات الدنيئة.
تنبيه: كل ما ورد في القرآن بصيغة السؤال أجيب عنه بـ "قل" بلا فاء إلا في طه
{ { فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } [الآية: 105] فقد وردت بالفاء، والحكمة أن الجواب في الجميع كان بعد وقوع السؤال وفي طه كان قبله إذ تقديره إن سئلت عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً.
فَائِدَة: روي أن رجلاً من المسلمين حمل على جيش الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس: سبحان الله ألقى بيديه إِلى التهلكة فقال أبو أيوب الأنصاري إِنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار حين أعز الله الإِسلام وكثر ناصروه فقلنا: لو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها فنزلت { وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } فكانت التهلكة الإِقامة على الأموال وإِصلاحها وترك الجهاد في سبيل الله فما زال أبو أيوب شاخصاً في سبيل الله حتى استشهد ودفن بأرض الروم.