خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

هَـٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ ٱلْحَمِيمُ
١٩
يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَٱلْجُلُودُ
٢٠
وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ
٢١
كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ
٢٢
إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ
٢٣
وَهُدُوۤاْ إِلَى ٱلطَّيِّبِ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَهُدُوۤاْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْحَمِيدِ
٢٤
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ٱلَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلْعَاكِفُ فِيهِ وَٱلْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
٢٥
وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلْقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ
٢٦
وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ
٢٧
لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَآئِسَ ٱلْفَقِيرَ
٢٨
ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ
٢٩
ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ ٱلأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ
٣٠
حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ ٱلرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ
٣١
ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ
٣٢
لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَىٰ ٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ
٣٣
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِّيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ فَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشِّرِ ٱلْمُخْبِتِينَ
٣٤
ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَٱلصَّٰبِرِينَ عَلَىٰ مَآ أَصَابَهُمْ وَٱلْمُقِيمِي ٱلصَّلَٰوةِ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ
٣٥
وَٱلْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ ٱللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْقَانِعَ وَٱلْمُعْتَرَّ كَذٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٣٦
لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ كَذٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ ٱلْمُحْسِنِينَ
٣٧
-الحج

صفوة التفاسير

المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى أهل السعادة وأهل الشقاوة، ذكر هنا ما دار بينهم من الخصومة في دينه وعبادته، ثم ذكر عظم حرمة البيت العتيق وبناء الخليل له، وعظم كفر هؤلاء المشركين الذين يصدون الناس عن سبيل الله والمسجد الحرام.
اللغَة: { يُصْهَرُ } الصهر: الإِذابة صهرت الشيء فانصهر أي أذبته فذاب { مَّقَامِعُ } المقامع: السياط جمع مقمعة سميت بذلك لأنها تقمع الفاجر { ٱلْعَاكِفُ } المقيم الملازم { وَٱلْبَادِ } القادم من البادية { بَوَّأْنَا } أنزلنا وهيأنا وأرشدنا { رِجَالاً } جمع راجل وهو الماشي على قدميه { ضَامِرٍ } الضامر: البعير المهزول الذي أتعبه السفر { تَفَثَهُمْ } التفث في اللغة: الوسخ والقذر قال الشاعر:

حفوا رءوسهم لم يحلقوا تفثاً ولم يسلُّـوا لهم قملاً وصئباناً

قال الثعلبي: أصل التفث في اللغة الوسخ، تقول العرب للرجل تستقذره: ما أتفثك أي ما أوسخك وأقذرك { ٱلْمُخْبِتِينَ } المخبت: المتواضع الخاشع لله.
التفسِير: { هَـٰذَانِ خَصْمَانِ } أي هذان فريقان مختصمان فريق المؤمنين المتقين، وفريق الكفرة المجرمين { ٱخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ } أي اختلفوا وتنازعوا من أجل الله ودينه قال مجاهد: هم المؤمنون والكافرون، فالمؤمنون يريدون نصرة دين الله، والكافرون يريدون إطفاء نور الله { فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ } أي فصلت لهم ثيابٌ من نار على قدر أجسادهم ليلبسوها إذا صاروا إلى النار قال القرطبي: شبهت النار بالثياب لأنها لباس لهم كالثياب ومعنى { قُطِّعَتْ } خيطت وسويت، وذكر بلفظ الماضي لأن الموعود منه كالواقع المحقق { يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ ٱلْحَمِيمُ } أي يصب على رءوسهم الماء الحار المغلي بنار جهنم { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَٱلْجُلُودُ } أي يذاب به ما في بطونهم من الأمعاء والأحشاء مع الجلود قال ابن عباس: لو سقطت منه قطرة على جبال الدنيا لأذابتها وفي الحديث
"إن الحميم ليصب على رءوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر، ثم يعاد كما كان" قال الإِمام الفخر: والغرض أن الحميم إذا صب على رءوسهم كان تأثيره في الباطن مثل تأثيره في الظاهر، فيذيب أمعاءهم وأحشاءهم كما يذيب جلودهم وهو أبلغ من قوله { { وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } [محمد: 15] { وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ } أي ولهم مطارق وسياط من الحديد يضربون بها ويدفعون وفي الحديث "لو وضعت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما أقلوها" { كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا } أي كلما أراد اهل النار الخروج من النار من شدة غمها ردوا إلى أماكنهم فيها قال الحسن: إن النار تضربهم بلهبها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفاً { وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ } أي ويقال لهم : ذوقوا عذاب جهنم المحرق الذي كنتم فيه تكذبون، ولما ذكر تعالى ما أعد للكفار من العذاب والدمار، ذكر ما أعده للمؤمنين من الثواب والنعيم فقال { إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أي يدخل المؤمنين الصالحين في الآخرة جنات تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار العظيمة المتنوعة { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ } أي تلبسهم الملائكة في الجنة الأساور الذهبية كحلية وزينة يتزينون بها { وَلُؤْلُؤاً } أي ويحلون باللؤلؤ كذلك إكراماً من الله لهم { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } أي ولباسهم في الجنة الحرير، ولكنه أعلى وأرفع مما في الدنيا بكثير { وَهُدُوۤاْ إِلَى ٱلطَّيِّبِ مِنَ ٱلْقَوْلِ } أي أرشدوا إلى الكلام الطيب والقول النافع إذ ليس في الجنة لغوٌ ولا كذب { وَهُدُوۤاْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْحَمِيدِ } أي إلى صراط الله وهو الجنة دار المتقين، ثم عدد تعالى بعض جرائم المشركين فقال { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } أي جحدوا بما جاء به محمد عليه السلام ويمنعون المؤمنين عن إتيان المسجد الحرام لأداء المناسك فيه قال القرطبي: وذلك حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام عام الحديبية، وإنما قال { وَيَصُدُّونَ } بصيغة المضارع ليدل على الاستمرار فكأن المعنى: إن الذين كفروا من شأنهم الصد عن سبيل الله ونظيره قوله { { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ } [الرعد: 28] { ٱلَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلْعَاكِفُ فِيهِ وَٱلْبَادِ } أي الذي جعلناه منسكاً ومتعبداً للناس جميعاً سواء فيه المقيم الحاضر، والذي يأتيه من خارج البلاد { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } أي ومن يرد فيه سوءاً أو ميلاً عن القصد أو يهم فيه بمعصية { نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } أي نذقه أشد أنواع العذاب الموجع قال ابن مسعود: لو أن رجلاً بِعدَنَ همَّ بأن يعمل سيئة عند البيت أذاقه الله عذاباً أليماً وقال مجاهد: تُضاعف السيئات فيه كما تضاعف الحسنات { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ } أي واذكر حين أرشدنا إبراهيم وألهمناه مكان البيت { أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً } أي أمرناه ببناء البيت العتيق خالصاً لله قال ابن كثير: أي ابنه على اسمي وحدي { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلْقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ } أي طهر بيتي من الأوثان والأقذار لمن يعبد الله فيه بالطواف والصلاة قال القرطبي: والقائمون هم المصلون، ذكر تعالى من أركان الصلاة أعظمها وهو القيام والركوع والسجود { وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ } أي ونادِ في الناس داعياً لهم لحج بيت الله العتيق قال ابن عباس: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قيل له: أذن في الناس بالحج، قال يا رب: وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعلي الإِبلاغ فصعد إبراهيم على جبل أبي قبيس وصاح: يا أيها الناس إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة، ويجيركم من عذاب النار فحجوا، فأجابه من كان في أصلاب الرجال، وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك { يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ } أي يأتوك مشاة على أقدامهم أو ركباناً على كل جمل هزيل قد أتعبه وأنهكه بعد المسافة { يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ } أي تأتي الإِبل الضامرة من كل طريق بعيد قال القرطبي: ورد الضمير إلى الإِبل { يَأْتِينَ } تكرمةً لها لقصدها الحج مع أربابها كما قال { وَٱلْعَادِيَاتِ ضَبْحاً } [العاديات: 1] في خيل الجهاد تكرمةً لها حين سعت في سبيل الله { لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ } أي ليحضروا منافع لهم كثيرة دينية ودنيوية قال الفخر الرازي: وانما نكَّر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات { وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ } أي ويذكروا عند ذبح الهدايا والضحايا اسم الله في أيام النحر شكراً لله على نعمائه وعلى ما رزقهم وملكهم من الأنعام وهي: الإِبل والبقر والغنم والمعز قال الرازي: وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي ذكر اسمه تعالى عند الذبح وأن يخالف المشركين في ذلك فإنهم كانوا يذبحونها للنصب والأوثان { فَكُلُواْ مِنْهَا } أي كلوا من لحوم الأضاحي { وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَآئِسَ ٱلْفَقِيرَ } أي أطعموا منها البائس الذي أصابه بؤس وشدة، والفقير الذي أضعفه الإِعسار قال ابن عباس: البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه، والفقير الذي لا يكون كذلك، ثيابه نقية ووجهه وجه غني { ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ } أي ثم بعد الذبح ليزيلوا وسخهم الذي أصابهم بالإِحرام وذلك بالحلق والتقصير وإزالة الشعث وقص الشارب والأظافر { وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ } أي ما أوجبوه على أنفسهم بالنذر طاعةً لله { وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ } أي ليطوفوا حول البيت العتيق طواف الإِفاضة وهو طواف الزيارة الذي به تمام التحلل، والعتيق: القديم سمي به لأنه أول بيت وضع للناس { ذٰلِكَ } أي الأمر والشأن ذلك قال الزمخشري: كما يقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض المعاني ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر قال: هذا وقد كان كذا { وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ ٱللَّهِ } أي من يعظم ما شرعه الله من أحكام الدين ويجتنب المعاصي والمحارم { فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ } أي ذلك التعظيم خير له ثواباً في الآخرة { وَأُحِلَّتْ لَكُمُ ٱلأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } أي أحللنا لكم جميع الأنعام إلا ما استثني في الكتاب المجيد كالميتة والمنخنقة وما ذبح لغير الله وغير ذلك { فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ } أي اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان كما تجتنب الأنجاس، وهو غاية المبالغة في النهي عن عبادتها وتعظيمها { وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ } أي واجتنبوا شهادة الزور { حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } أي مائلين إلى الحق مسلمين لله غير مشركين به أحداً { وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ } تمثيل للمشرك في ضلاله وهلاكه أي ومن أشرك بالله فكأنما سقط من السماء فتخطفه الطير وتمزقه كل ممزق { أَوْ تَهْوِي بِهِ ٱلرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } أي أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المهالك البعيدة { ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ ٱللَّهِ } أي ذلك ما وضحه الله لكم من الأحكام والأمثال ومن يعظم أمور الدين ومنها أعمالُ الحج والأضاحي والهدايا { فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ } أي فإن تعظيمها من أفعال المتقين لله قال القرطبي: أضاف التقوى إلى القلوب لأن حقيقة التقوى في القلب وفي الحديث "التقوى هٰهنا" وأشار إلى صدره { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي لكم في الهدايا منافع كثيرة من الدر والنسل والركوب إلى وقت نحرها { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَىٰ ٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ } أي ثم مكان ذبحها في الحرم بمكة أو منى، وخص البيت بالذكر لأنه أشرف الحرم كقوله تعالى { { هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ } [المائدة: 95] { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً } أي شرعنا لكل أُمة من الأمم السابقة من عهد إبراهيم مكاناً للذبح تقرباً لله قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه لم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعاً في جميع الملل { لِّيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ } أي أمرناهم عند الذبح أو يذكروا اسم الله وأن يذبحوا لوجهه تعالى { عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ } أي شكراً لله على ما أنعم به عليهم من بهيمة الأنعام من الإِبل والبقر والغنم، بين تعالى انه يجب أن يكون الذبح لوجهه تعالى وعلى اسمه لأنه هو الخالق الرازق لا كما كان المشركون يذبحون للأوثان { فَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } أي فربكم أيها الناس ومعبودكم إله واحد لا شريك له { فَلَهُ أَسْلِمُواْ } أي فأخلصوا له العبدة واستسلموا لحكمه وطاعته { وَبَشِّرِ ٱلْمُخْبِتِينَ } أي بشر المطيعين المتواضعين الخاشعين بجنات النعيم، ثم وصف تعالى المخبتين بأربع صفات فقال { ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } أي إذا ذكر الله خافت وارتعشت لذكره قلوبهم لإِشراق أشعة جلاله عليها فكأنهم بين يديه واقفون، ولجلاله وعظمته مشاهدون { وَٱلصَّابِرِينَ عَلَىٰ مَآ أَصَابَهُمْ } أي يصبرون في السراء والضراء على الأمراض والمصائب والمحن وسائر المكاره { وَٱلْمُقِيمِي ٱلصَّلاَةِ } أي الذين يؤدونها في أوقاتها مستقيمةً كاملة مع الخشوع والخضوع { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } أي ومن بعض الذي رزقناهم من فضلنا ينفقون في وجوه الخيرات { وَٱلْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ ٱللَّهِ } أي والإِبل السمينة - سميت بدناً لبدانتها وضخامة أجسامها - جعلناها من أعلام الشريعة التي شرعها الله لعباده قال ابن كثير: وكونها من شعائر الدين انها تُهدى إلى بيته الحرام بل هي أفضل ما يهدى { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } قال ابن عباس: نفعٌ في الدنيا وأجرٌ في الآخرة { فَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ } أي اذكروا عند ذبحها اسم الله الجليل عليها حال كونها صواف أي قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } أي فإذا سقطت على الأرض بعد نحرها، وهو كنايةٌ عن الموت { فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْقَانِعَ وَٱلْمُعْتَرَّ } أي كلوا من هذه الهدايا وأطعموا القانع أي المتعفف والمعتر أي السائل قاله ابن عباس، وقال الرازي: الأقرب أن القانع هو الراضي بما يدفع إليه من غير سؤال وإلحاح، والمعتر هو الذي يتعرض ويطلب ويعتريهم حالاً بعد حال { كَذٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي مثل ذلك التسخير البديع جعلناها منقادة لكم مع ضخامة اجسامها لكي تشكروا الله على إنعامه { لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا } أي لن يصل إليه تعالى شيء من لحومها ولا دمائها { وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ } أي ولكن يصل إليه التقوى منكم بامتثالكم أوامره وطلبكم رضوانه { كَذٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ } أي كرره للتأكيد أي كذلك ذللها لكم وجعلها منقادة لرغبتكم لتكبروا الله على ما أرشدكم إليه من أحكام دينه { وَبَشِّرِ ٱلْمُحْسِنِينَ } أي بشر المحسنين في أعمالهم بالسعادة والفوز بدار النعيم.
البَلاَغة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1- الإِيجاز { ٱخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ } أي في دين ربهم فهو على حذف مضاف.
2- الاستعارة { قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ } استعارة عن إحاطة النار بهم كما يحيط الثوب بلابسه.
3- الطباق بين { ٱلْعَاكِفُ.. وَٱلْبَادِ } لأن العاكف المقيم في المدينة والباد القادم من البادية.
4- التأكيد بإعادة الفصل { فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ } للعناية بشأن كل استقلالاً، ويسمى في علم البديع الإِطناب.
5- التشبيه التمثيلي { وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ } لأن وجه الشبه منتزع من متعدد.
6- الجناس الناقص { وَجَبَتْ جُنُوبُهَا }.
7- الطباق بين { ٱلْقَانِعَ وَٱلْمُعْتَرَّ } لأنه القانع المتعفف والمعتر السائل.
8- السجع اللطيف مثل { عَميِقٍ }، { سَحِيقٍ }، { ٱلْعَتِيقِ } ومثل { ٱلْمُحْسِنِينَ }، { ٱلْمُخْبِتِينَ }.
تنبيه: لم يؤاخذ الله تعالى أحداً من خلقه على الهم بالمعصية إلا في المسجد الحرام { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } لأنه المكان المقدس الذي يجب أن يكون فيه الإِنسان نقي القلب، طاهر النفس، صافي السريرة، خالصاً بكليته لله، فمن ينتهك حرمة الملك في حماه جدير بالجحيم والعذاب الأليم.