خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

طسۤ تِلْكَ آيَاتُ ٱلْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ
١
هُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ
٢
ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُم بِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
٣
إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ
٤
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَهُمْ سُوۤءُ ٱلْعَذَابِ وَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلأَخْسَرُونَ
٥
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ
٦
إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لأَهْلِهِ إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ
٧
فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٨
يٰمُوسَىٰ إِنَّهُ أَنَا ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٩
وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّىٰ مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يٰمُوسَىٰ لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ ٱلْمُرْسَلُونَ
١٠
إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوۤءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١١
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ
١٢
فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ
١٣
وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ
١٤
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٥
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْمُبِينُ
١٦
وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْس وَٱلطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ
١٧
حَتَّىٰ إِذَآ أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
١٨
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ ٱلصَّالِحِينَ
١٩
-النمل

صفوة التفاسير

اللغَة: { يَعْمَهُونَ } يترددون ويتحيرون، والعَمَهُ: التحير والتردُّد كما هو حال الضال عن الطريق قال الزاجر: "أعْمى الهُدى بالحائرين العُمَّه" { قَبَسٍ } القَبس: النار المقبوسة من جمرٍ وغيره { تَصْطَلُونَ } اصطلى يصطلي إذا استدفأ من البرد قال الشاعر:

النارُ فاكهةُ الشتاءِ فمن يُرد أكْلَ الفواكه شاتياً فلْيصْطَلِ

{ بُورِكَ } من البركة وهي زيادة الخير والنماء قال الثعلبي: العرب تقول: باركك الله، وبارك فيك، وبارك عليك، وبارك لك، أربعُ لغات قال الشاعر:

فبوركتَ مولوداًَ وبوركت ناشئاً وبوركتَ عن الشيب إِذْ أنت أشيب

{ يُوزَعُونَ } أصل الوزع الكفُّ والمنع يقال: وزَعه يزعه إذا كفَّه عن الشيء ومنعه ومنه قول عثمان "إن الله ليزَع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" قال النابغة:

على حين عاتبتُ المشيبَ على الصِّبا وقلتُ ألمَّا أصّحُ والشيبُ وازع

التفسِير: { طسۤ } الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن وقد تقدم الكلام عليها { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْقُرْآنِ } أي هذه الآيات المنزَّلة عليك يا محمد هي آياتُ القرآن المعجز في بيانه، الساطع في برهانه { وَكِتَابٍ مُّبِينٍ } أي وآياتُ كتابٍ واضحٍ مبين لمن تفكر فيه وتدبَّر، أبان اللهُ فيه الأحكام، وهدى به الأنام { هُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ } أي تلك آيات القرآن الهادي للمؤمنين إلى صراطٍ مستقيم، والمبشر لهم بجنات النعيم، خصَّ المؤمنين بالذكر لانتفاعهم به { ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ } أي يؤدونها على الوجه الأكمل بخشوعها، وآدابها، وأركانها { وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ } أي يدفعون زكاة أموالهم طيبةً بها نفوسهم { وَهُم بِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } أي يصدّقون بالآخرة تصديقاً جازماً لا يخالجه شك أو ارتياب قال الإِمام الفخر: والجملة اعتراضية كأنه قيل وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات هم الموقنون بالآخرة، فما يوقن بالآخرة حقَّ الإِيقان إلاّ هؤلاء الجامعون بين الإِيمان والعمل الصالح، لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق وقال أبو حيان: ولما كان { يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ } مما يتجدَّد ولا يستغرق الأزمان جاءت الصلة فعلاً، ولما كان الإِيمان بالآخرة بما هو ثابت ومستقر جاءت الجملة إسمية وأُكدت بتكرار الضمير { وَهُم بِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } وجاء خبر المبتدأ فعلاً ليدل على الديمومة، ولما ذكر تعالى المؤمنين الموقنين بالبعث، ذكر بعدها المنكرين المكذبين بالآخرة فقال { إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ } أي لا يصدّقون بالبعث { زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ } أي زينا لهم أعمالهم القبيحة حتى رأوها حسنة قال الرازي: والمراد من التزيين هو أن يخلق في قلبه العلم بما فيها من المنافع واللذات، ولا يخلق في قلبه العلم بما فيها من المضار والآفات { فَهُمْ يَعْمَهُونَ } أي فهم في ضلال أعمالهم القبيحة يترددون حيارى لا يميزون بين الحسن والقبيح { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَهُمْ سُوۤءُ ٱلْعَذَابِ } أي لهم أشد العذاب في الدنيا بالقتل والأسر والتشريد { وَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلأَخْسَرُونَ } أي وخسارتهم في الآخرة أشد من خسارتهم في الدنيا لمصيرهم إلى النار المؤبدة والجحيم والأغلال { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلْقُرْآنَ } أي وإِنك يا محمد لتتلقى هذا القرآن العظيم وتُعطاه { مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } أي من عند الله الحكيم بتدبير خلقه، العليم بما فيه صلاحهم وسعادتهم قال الزمخشري: وهذه الآية بسطٌ وتمهيد لما يريد أن يسوق بعدها من الأقاصيص، وما في ذلك من لطائف حكمته، ودقائق علمه { إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لأَهْلِهِ إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً } أي اذكر يا محمد حين قال موسى لأهله - أي زوجته - إني أبصرتُ ورأيت ناراً قال المفسرون: وهذا عندما سار من مدين إلى مصر، وكان في ليلة مظلمة باردة، وقد ضلَّ عن الطريق وأخذ زوجته الطَّلقُ { سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ } أي سآتيكم بخبرٍ عن الطريق إذا وصلتُ إليها { أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ } أي أو آتيكم بشعلةٍ مقتبسة من النار { لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } أي لكي تستدفئوا بها { فَلَمَّا جَآءَهَا } أي فلما وصل إلى مكان النار رأى منظراً هائلاً عظيماً، حيث رأى النار تضطرم في شجرة خضراء، لا تزداد النار إلا توقداً ولا تزداد الشجرةُ إلا خضرةً ونُضْرة، ثم رفع رأسه فإِذا نورها متصلٌ بعنان السماء قال ابن عباس: لم تكن ناراً وإِنما كانت نوراً يتوهج فوقف موسى متعجباً ممّا رأى وجاءه النداء العلوي { نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } أي نودي من جانب الطور بأن بوركتَ يا موسى وبورك من حولك وهم الملائكة قال ابن عباس: معنى { بُورِكَ } تقدَّس { وَمَنْ حَوْلَهَا } الملائكةُ قال أبو حيان: وبدؤه بالنداء تبشيرٌ لموسى وتأنيسٌ له ومقدمةٌ لمناجاته، وجديرٌ أن يبارك من في النار ومن حواليها إذ قد حدث أمرٌ عظيم وهو تكليم الله لموسى وتنبيئه { وَسُبْحَانَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أي تقدَّس وتنزَّه ربُّ العزة، العليُّ الشأن، الذي لا يشبهه شيء من مخلوقاته لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله { يٰمُوسَىٰ إِنَّهُ أَنَا ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } أي أنا الله القويُّ القادر، العزيز الذي لا يُقهر، الحكيم الذي يفعل كل شيء بحكمةٍ وتدبير { وَأَلْقِ عَصَاكَ } عطفٌ على السابق أي ونودي أن ألق عصاك لترى معجزتك بنفسك فتأنس بها { فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ } أي فلما رآها تتحرك حركة سريعة كأنها ثعبان خفيف سريع الجري { وَلَّىٰ مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ } أي ولّى الأدبار منهزماً ولم يرجع لما دهاه من الخوف والفزع قال مجاهد: "لم يُعقّب" لم يرجع، وقال قتادة: لم يلتفت، لحقه ما لحق طبع البشر إذ رأى أمراً هائلاً جداً وهو انقلاب العصا حيةً تسعى ولهذا ناداه ربه { يٰمُوسَىٰ لاَ تَخَفْ } أي أقبل ولا تخف لأنك بحضرتي ومن كان فيها فهو آمنٌ { إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ ٱلْمُرْسَلُونَ } أي فأنت رسولي ورسلي الذين اصطفيتهم للنبوة لا يخافون غيري قال ابن الجوزي: نبَّهه على أن من آمنَه الله بالنبوة من عذابه لا ينبغي أن يخاف من حيَّة { إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوۤءٍ } الاستثناء منقطع أي لكنْ من ظلم من سائر الناس لا من المرسلين فإِنه يخاف إلا إذا تاب وبدَّل عمله السيء إلى العمل الحسن { فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي عظيم المغفرة واسع الرحمة قال ابن كثير: وفيه بشارة عظيمةٌ للبشر وذلك أن من كان على عمل سيء، ثم أقلع ورجع وتاب وأناب فإِن الله يتوب عليه كقوله { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ } [طه: 82] { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ } هذه معجزةٌ أُخرى لموسى تدل على باهر قدرة الله والمعنى أدخل يا موسى يدك في فتحة ثوبك ثم أخرجها تخرج مضيئة ساطعة بيضاء تتلألأ كالبرق الخاطف دون مرضٍ أو برص { فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ } أي هاتان المعجزتان "العصا واليد" ضمن تسعِ معجزاتٍ أيدتك بها وجعلتُها برهاناً على صدقك لتذهب بها إلى فرعون وقومه { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } أي خارجين عن طاعتنا، ممعنين في الكفر والضلال { فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً } أي فلما رأوا تلك المعجزات الباهرة، واضحةً بينةً ظاهرة { قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } أي أنكروها وزعموا أنها سحرٌ واضح { وَجَحَدُواْ بِهَا } أي كفروا وكذبوا بتلك الخوارق { وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ } أي وقد أيقنوا بقلوبهم أنها من عند الله وليست من قبيل السحر { ظُلْماً وَعُلُوّاً } أي جحدوا بها ظلماً من أنفسهم، واستكباراً عن اتباع الحق، وأيُّ ظلمٍ أفحش ممن يعتقد ويستيقن أنها آيات بينة واضحة جاءت من عند الله، ثم يكابر بتسميتها سحراً؟ ولهذا قال { فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ } أي انظر أيها السامع وتدبر بعين الفكر والبصيرة ماذا كان مآلُ أمر الطاغين، من الإِغراق في الدنيا، والإِحراق في الآخرة؟ قال ابن كثير: وفحوى الخطاب كأنه يقول: احذروا أيها المكذبون لمحمد، الجاحدون لما جاء به من ربه، أن يصيبكم مثلُ ما أصابهم بطريق الأولى والأحرى، فإِن محمداً صلى الله عليه وسلم أشرفُ وأعظمُ من موسى، وبرهانُه أدلُّ وأقوى من برهان موسى، عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً } هذه هي القصة الثانية في السورة الكريمة وهي قصة "داود وسليمان" والمعنى واللهِ لقد أعطينا داود وابنه سليمان علماً واسعاً من علوم الدنيا والدين، وجمعنا لهما بين سعادة الدنيا والآخرة قال الطبري: وذلك علم كلام الطير والدواب وغير ذلك مما خصَّهم الله بعلمه { وَقَالاَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي وقالا شكراً للّه الحمد لله الذي فضلنا بما آتانا من النبوة، والعلم، وتسخير الإِنس والجن والشياطين، على كثيرٍ من عباده المؤمنين { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } أي ورث سليمانُ أباه في النبوة، والعلم، والمُلْك دون سائر أولاده قال الكلبي: كان لداود تسعة عشر ولداً فورث سليمانُ من بينهم نبوته وملكه، ولو كانت وراثة مال لكان جميع أولاده فيه سواء { وَقَالَ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ } أي وقال تحدثاً بنعمة الله: يا أيها الناسُ لقد أكرمنا اللهُ فعلَّمنا منطق الطير وأصوات جميع الحيوانات { وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ } أي وأعطانا الله من كل شيء من خيرات الدنيا يعطاها العظماء والملوك { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْمُبِينُ } أي إن ما أُعطيناه وما خصَّنا الله به من أنواع النعم لهو الفضل الواضح الجلي، قاله على سبيل الشكر والمحمدة لا على سبيل العلوّ والكبرياء { وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْس وَٱلطَّيْرِ } أي جمعت له جيوشه وعساكره وأُحضرت له في مسيرةٍ كبيرة فيها طوائف الجن والإِنسِ والطير، يتقدمهم سليمان في أُبَّهة وعظمةٍ كبيرة { فَهُمْ يُوزَعُونَ } أي فهم يُكَفُّون ويمنعون عن التقدم بين يديه قال ابن عباس: جعل على كل صنفٍ من يردُّ أولاها على أُخراها لئلا يتقدموا في المسير كما تصنع الملوك { حَتَّىٰ إِذَآ أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمْلِ } أي حتى إذا وصلوا إلى وادٍ بالشام كثير النمل { قَالَتْ نَمْلَةٌ يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ } أي قالت إحدى النملات لرفيقاتها ادخلوا بيوتكم، خاطبتهم مخاطبة العقلاء لأنها أمرتهم بما يؤمر به العقلاء { لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ } أي لا يكسرنَّكم سليمانُ وجيوشه بأقدامهم { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أي وهم لا يشعرون بكم ولا يريدون حطمكم عن عمد حذَّرت ثم اعتذرت لأنها علمت أنه نبيٌّ رحيم، فسمع سليمان كلامها وفهم مرامها { فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا } أي فتبسَّم سروراً بما سمع من ثناء النملة عليه وعلى جنوده، فإِن قولها { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } وصفٌ لهم بالتقوى والتحفظ من مضرة الحيوان { وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ } أي ألهمني ووفقني لشكر نعمائك وأفضالك التي أنعمت بها عليَّ وعلى أبويَّ { وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ } أي ووفقني لعمل الخير الذي يقربني منك والذي تحبه وترضاه { وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ ٱلصَّالِحِينَ } أي وأدخلني الجنة دار الرحمة مع عبادك الصالحين.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1- الإِشارة بالبعيد عن القريب { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْقُرْآنِ } للإِيذان ببعد منزلته في الفضل والشرف.
2- التنكير للتفخيم والتعظيم { وَكِتَابٍ مُّبِينٍ } أي كتابٍ عظيم الشأن رفيع القدر.
3- ذكر المصدر بدل اسم الفاعل للمبالغة { هُدًى وَبُشْرَىٰ } أي هادياً ومبشراً.
4- تكرير الضمير لإِفادة الحصر والاختصاص { وَهُم بِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } ومثله { وَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلأَخْسَرُونَ } وفيه المقابلة اللطيفة بين الجملتين.
5- التأكيد بإِنَّ واللام { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلْقُرْآنَ } لوجود المتشككين في القرآن.
6- إيجاز الحذف { وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ } حذفت جملة فألقاها فانقلبت إلى حية الخ وذلك لدلالة السياق عليه.
7- الطباق { حُسْناً بَعْدَ سُوۤءٍ }. وبين { وَلَّىٰ مُدْبِراً.. وَلَمْ يُعَقِّبْ }.
8- الاستعارة { آيَاتُنَا مُبْصِرَةً } استعار لفظ الإِبصار للوضوح والبيان لأن بالعينين يبصر الإِنسان الأشياء.
9- التشبيه المرسل المجمل { كَأَنَّهَا جَآنٌّ } ذكرت أداة التشبيه وحذف وجه الشبه فصار مرسلاً مجملاً.
10- حسن الاعتذار { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }.
لطيفَة: قال بعض العلماء هذه الآية { قَالَتْ نَمْلَةٌ يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ.. } من عجائب القرآن لأنها بلفظة "يا" نادت "أيها" نبَّهت "النمل" عيَّنت "ادخلوا" أمرت "مساكنكم" نصَّت "لا يحطمنكم" حذَّرت "سليمان" خصت "وجنوده" عمَّت "وهم لا يشعرون" اعتذرت، فيا لها من نملة ذكية!!