المنََاسَبَة: لا تزال الآيات الكريمة تتابع أحداث أُحد، وتكشف عن أسرار المنافقين ومواقفهم المخزية، وتوضّح الدروس والعبر من تلك الغزوة المجيدة.
اللغَة: { يَسْتَبْشِرُونَ } يفرحون وأصله من البشرة لأن الإِنسان إِذا فرح ظهر أثر السرور في وجهه قال ابن عطية: وليست استفعل في هذا الموضع بمعنى طلب البشارة وإِنما
هي بمعنى الفعل المجرد كقوله تعالى { { وَّٱسْتَغْنَىٰ ٱللَّهُ } [التغابن: 6] { ٱلْقَرْحُ } بالفتح الجرح وبالضم ألم الجرح وقد تقدم { حَسْبُنَا } كافينا مأخوذ من الإِحساب بمعنى الكفاية قال الشاعر:
فتملأُ بيتنا أقْطاً وسَمْناً وحسبُك من غنىً شِبَعٌ ورِيُّ
{ حَظّاً } الحظ: النصيب ويستعمل في الخير والشر وإِذا لم يقيّد يكون للخير { نُمْلِي } الإِملاء: التأخير والإِمهال قال القرطبي: والمراد بالإِملاء هنا طول العمر ورغد العيش { يَمِيزَ } يُميِّز يقال: ماز وميّز أي فصل الشيء من الشيء ومنه { { وَٱمْتَازُواْ ٱلْيَوْمَ أَيُّهَا ٱلْمُجْرِمُونَ } [يس: 59] { يَجْتَبِي } يختار { سَيُطَوَّقُونَ } من الطّوق وهو القلادة أي يلزمون به لزوم الطوق في العنق.
سَبَبُ النّزول: أ - عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لمّا أصيب إِخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طيرٍ خضرٍ، ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها وتأوي إِلى قناديل من ذهب معلقةً في ظلّ العرش، فلما وجدوا طيب مأْكلهم ومَشْربهم ومَقِيلهم قالوا: من يبلّغ إِخواننا عنا أنّا أحياءٌ في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكُلوا عند الحرب فقال الله سبحانه: أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً }" الآية.
ب - عن جابر بن عبد الله قال: "لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا جابر: ما لي أراك منكساً مُهتماً؟ قلت يا رسول الله: استُشْهد أبي وترك عيالاً وعليه دين فقال: ألا أبشرك بما لقي الله عز وجل به أباك؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: إِن الله أحيا أباك وكلّمه كفاحاً - وما كلّم أحداً قط إِلا من وراء حجاب - فقال له: يا عبد الله تمنَّ أعطك قال يا رب: أسألك أن تردني الى الدنيا فأُقتل فيك ثانية فقال الرب تبارك وتعالى: إِنه قد سبق مني أنهم إِليها لا يرجعون، قال يا رب: فأبلغ من ورائي فأنزل الله { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً }" .
التفسِير: { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً } أي لا تظنَّن الذين استشهدوا في سبيل الله لإِعلاء دينه أمواتاً لا يُحسّون ولا يتنعمون { بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } أي بل هم أحياء متنعمون في جنان الخلد يرزقون من نعيمها غدواً وعشياً قال الواحدي: الأصح في حياة الشهداء ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أن أرواحهم في أجواف طيور خضر وأنهم يُرزقون ويأكلون ويتنعمون { فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } أي هم منعّمون في الجنة فرحون بما هم فيه من النعمة والغبطة { وَيَسْتَبْشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ } أي يستبشرون بإِخوانهم المجاهدين الذين لم يموتوا في الجهاد بما سيكونون عليه بعد الموت إِن استشهدوا فهم لذلك فرحون مستبشرون { أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } أي بأنْ لا خوف عليهم في الآخرة ولا هم يحزنون على مفارقة الدنيا لأنهم في جنات النعيم { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُؤْمِنِين } أكّد استبشارهم ليذكر ما تعلّق به من النعمة والفضل والمعنى: يفرحون بما حباهم الله تعالى من عظيم كرامته وبما أسبغ عليهم من الفضل وجزيل الثواب، فالنعمة ما استحقوه بطاعتهم، والفضلُ ما زادهم من المضاعفة في الأجر { ٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ للَّهِ وَٱلرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ ٱلْقَرْحُ } أي الذين أطاعوا الله وأطاعوا الرسول من بعد ما نالهم الجراح يوم أُحد قال ابن كثير: وهذا كان يوم "حمراء الأسد" وذلك أن المشركين لما أصابوا ما أصابوا من المسلمين كرّوا راجعين إِلى بلادهم ثم ندموا لم لا تمّموا على أهل المدينة وجعلوها الفيصلة، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب المسلمين إِلى الذهاب وراءهم ليرعبهم ويريهم أنّ بهم قوة وجَلَداً، ولم يأذن لأحدٍ سوى من حضر أحداً فانتدب المسلمون على ما بهم من الجراح والإِثخان طاعة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم. { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَٱتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } أي لمن أطاع منهم أمر الرسول وأجابه إِلى الغزو - على ما به من جراح وشدائد - الأجرُ العظيم والثوابُ الجزيل { ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً } أي الذين أرجف لهم المرجفون من أنصار المشركين فقالوا لهم: إِن قريشاً قد جمعت لكم جموعاً لا تحصى فخافوا على أنفسكم فما زادهم هذا التخويف إِلا إِيماناً { وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ } أي قال المؤمنون الله كافينا وحافظنا ومتولي أمرنا ونعم الملجأ والنصير لمن توكل عليه جل وعلا { فَٱنْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ } أي فرجعوا بنعمة السلامة وفضل الأجر والثواب { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوۤءٌ } أي لم ينلهم مكروه أو أذى { وَٱتَّبَعُواْ رِضْوَانَ ٱللَّهِ } أي نالوا رضوان الله الذي هو سبيل السعادة في الدارين { وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } أي ذو إِحسان عظيم على العباد { إِنَّمَا ذٰلِكُمُ ٱلشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } أي إِنما ذلكم القائل { إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } بقصد تثبيط العزائم هو الشيطان يخوفكم أولياءه وهم الكفار لترهبوهم { فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } أي فلا تخافوهم ولا ترهبوهم فإِني متكفل لكم بالنصر عليهم، ولكن خافوا إن كنتم مؤمنين حقاً أن تعصوا أمري فتهلكوا، والمراد بالشيطان "نعيم ابن مسعود الأَشجعي" الذي أرسله أبو سفيان ليثبط المسلمين، قال أبو حيان: وإِنما نسب إِلى الشيطان لأنه ناشيء عن وسوسته وإِغوائه وإِلقائه { وَلاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ } تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم أي لا تحزن ولا تتألم يا محمد لأولئك المنافقين الذين يبادرون نحو الكفر بأقوالهم وأفعالهم، ولا تبال بما يظهر منهم من آثار الكيد للإِسلام وأهله { إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً } أي إِنهم بكفرهم لن يضروا الله شيئاً وإِنما يضرون أنفسهم { يُرِيدُ ٱللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي ٱلآخِرَةِ } أي يريد تعالى بحكمته ومشيئته ألاّ يجعل لهم نصيباً من الثواب في الآخرة { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي ولهم فوق الحرمان من الثواب عذاب عظيم في نار جهنم { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلْكُفْرَ بِٱلإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي الذين استبدلوا الكفر بالإِيمان وهم المنافقون المذكورون قبل، لن يضروا الله بكفرهم وارتدادهم ولهم عذاب مؤلم { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ } أي لا يظنَّن الكافرون أن إِمهالنا لهم بدون جزاء وعذاب، وإِطالتنا لأعمارهم خير لهم { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً } أي إِنما نمهلهم ونؤخر آجالهم ليكتسبوا المعاصي فتزداد آثامهم { وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } أي ولهم في الآخرة عذاب يهينهم { مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ } هذا وعدٌ من الله لرسوله بأنه سيميّز له المؤمن من المنافق والمعنى لن يترك الله المؤمنين مختلطين بالمنافقين حتى يبتليهم فيفصل بين هؤلاء وهؤلاء، كما فعل في غزوة أُحد حيث ظهر أهل الإِيمان وأهل النفاق قال ابن كثير "أي لا بدّ أن يعقد شيئاً من المحنة يظهر فيها وليُّه ويُفضح بها عدوه، يُعرف به المؤمن الصابر من المنافق الفاجر، كما ميّز بينهم يوم أُحد". { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ } قال الطبري: وأولى الأقوال بتأويله: أي وما كان الله ليطلعكم على قلوب عباده فتعرفوا المؤمن من المنافق والكافر، ولكنه يميز بينهم بالمحن والإِبتلاء كما ميّز بينهم يوم أُحد بالبأساء وجهاد عدوه { وَلَكِنَّ ٱللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ } أي يختار من رسله من يشاء فيطلعهم على غيبه كما أطلع النبي صلى الله عليه وسلم على حال المنافقين { فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ } أي آمنوا إِيماناً صحيحاً بأن الله وحده المطلع على الغيب وأن ما يخبر به الرسول من أمور الغيب إِنما هو بوحي من الله { وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } أي وإِن تصدّقوا رسلي وتتقوا ربكم بطاعته فلكم ثواب عظيم { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ } لما بالغ تعالى في التحريض على بذل النفس في الجهاد شرع هنا في التحريض على بذل المال في سبيل الله، وذكر الوعيد الشديد لمن يبخل بماله والمعنى لا يحسبنَّ البخيلُ أن جمعه المال وبخله بإِنفاقه ينفعه، بل هو مضرّة عليه في دينه ودنياه { بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ } أي ليس كما يظنون بل ذلك البخلُ شرٌّ لهم { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } أي سيجعل الله ما بخلوا به طوقاً في أعناقهم يعذبون به يوم القيامة كما جاء في صحيح البخاري "من آتاه الله مالاً فلم يؤدّ زكاته مُثِّل له يوم القيامة شجاعاً أقرع - أي ثعباناً عظيماً - له زبيبتان فيأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك ثم تلا صلى الله عليه وسلم { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ } الآية { وَللَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ }" أي جميع ما في الكون ملك له يعود إِليه بعد فناء خلقه { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي مطلع على أعمالكم.
البَلاغَة: قال في البحر: تضمنت هذه الآيات فنوناً من البلاغة والبديع: الإِطنابُ في { يَسْتَبْشِرُونَ } وفي { لَن يَضُرُّواْ } وفي اسم الجلالة في مواضع، والطباق في { أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ } وفي { ٱلْكُفْرَ بِٱلإِيمَانِ } والاستعارة في { ٱشْتَرَوُاْ ٱلْكُفْرَ } وفي { يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ } وفي { ٱلْخَبِيثَ وَٱلطَّيِّبِ } إِذ يراد به المؤمن والمنافق والحذف في مواضع.
فَائِدَة: قوله تعالى { حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ } هي الكلمة التي قالها إِبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار قال السيوطي في الإِكليل: يستحب قول هذه الكلمة عند الغمّ والأمور العظيمة.