خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
١٨
إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ وَمَا ٱخْتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
١٩
فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِ وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلَٰغُ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ
٢٠
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ ٱلَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِٱلْقِسْطِ مِنَ ٱلنَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
٢١
أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
٢٢
أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَابِ ٱللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ
٢٣
ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
٢٤
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
٢٥
-آل عمران

صفوة التفاسير

المنَاسَبَة: لما مدح تعالى المؤمنين وأثنى عليهم بقوله { الذين يقولون ربنا إِننا آمنا } أردفه بأنْ بيّن أنَّ دلائل الإِيمان ظاهرة جلية فقال { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } ثم بيّن أن الإِسلام هو الدين الحق الذي ارتضاه الله لعباده، وأمر الرسول بأن يعلن استسلامه لله وانقياده لدين الله، وأعقبه بذكر ضلالات أهل الكتاب واختلافهم في أمر الدين اختلافاً كبيراً، وإِعراضهم عن قبول حكم الله.
اللغَة: { شَهِدَ } الشهادة: الإِقرار والبيان { ٱلْقِسْطِ } العدل { الدِّينَ } أصل الدين في اللغة: الجزاء ويطلق على الملَّة وهو المراد هنا { ٱلإِسْلاَمُ } الاسلام في اللغة: الاستسلام والانقياد التام قال ابن الأنباري: المسلم معناه المخلص لله عبادته من قولهم: سلم الشيء لفلان أي خلص له فالإِسلام معناه إِخلاص الدين والعقيدة لله تعالى { حَآجُّوكَ } جادلوك ونازعوك { غَرَّهُمْ } فتنهم { يَفْتَرُونَ } يكذبون.
سَبَبُ النّزول: لمّا استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قدم عليه حَبْران من أحبار الشام، فلما دخلا عليه عرفاه بالصّفة والنعت فقالا له: أنت محمد؟ قال نعم، قالا: وأنت أحمد؟ قال نعم، قالا نسألك عن شهادةٍ فإِن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدَّقناك، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلاني، فقالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله فنزلت { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } الآية فأسلم الرجلان وصدّقا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
التفسِير: { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } أي بيّن وأعلم تعالى عباده بانفراده بالوحدانية، قال الزمخشري: شبهت دلالته على وحدانيته بشهادة الشاهد في البيان والكشف { وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ } أي وشهدت الملائكة وأهل العلم بوحدانيته بدلائل خلقه وبديع صنعه { قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ } أي حال كونه مقيماً للعدل فيما يقسم من الآجال والأرزاق { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } أي لا معبود في الوجود بحق إِلا هو { ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } أي العزيز في ملكه الحكيم في صنعه { إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ } أي الشرع المقبول عند الله هو الإِسلام، ولا دين يرضاه الله سوى الإِسلام { وَمَا ٱخْتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ } أي وما اختلف اليهود والنصارى في أمر الإِسلام ونبوة محمد عليه السلام، إِلا بعد أن علموا بالحجج النيرّة والآيات الباهرة حقيقة الأمر، فلم يكن كفرهم عن شبهة وخفاء وإِنما كان عن استكبار وعناد، فكانوا ممن ضلَّ عن علم { بَغْياً بَيْنَهُمْ } أي حسداً كائناً بينهم حملهم عليه حب الرئاسة { وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } وهو وعيد وتهديد أي من يكفر بآياته تعالى فإِنه سيصير إلى الله سريعاً فيجازيه على كفره { فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ } أي إِن جادلوك يا محمد في شأن الدِّين فقل لهم: أنا عبدٌ لله قد استسلمتُ بكليتي لله، وأخلصت عبادتي له وحده، لا شريك له ولا نِدّ ولا صاحبة ولا ولد { وَمَنِ ٱتَّبَعَنِ } أي أنا وأتباعي على ملة الإِسلام، مستسلمون منقادون لأمر الله { وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ وَٱلأُمِّيِّينَ } أي قل لليهود والنصارى والوثنيين من العرب { أَأَسْلَمْتُمْ } أي هل أسلمتم أم أنتم باقون على كفركم فقد أتاكم من البينات ما يوجب إِسلامكم { فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ } أي فإِن أسلموا كما أسلمتم فقد نفعوا أنفسهم بخروجهم من الضلال إِلى الهدى ومن الظلمة إِلى النور { وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ } أي وإِن أعرضوا فلن يضروك يا محمد إِذ لم يكلفك الله بهدايتهم وإِنما أنت مكلف بالتبليغ فحسب والغرض منها تسلية النبي صلى الله عليه وسلم { وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ } أي عالم بجميع أحوالهم فيجازيهم عليها، روي
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآية على أهل الكتاب قالوا: أسلمنا فقال عليه السلام لليهود: أتشهدون أن عيسى كلمة الله وعبده ورسوله! فقالوا: معاذ الله، فقال للنصارى: أتشهدون أن عيسى عبد الله ورسوله! فقالوا: معاذ الله أن يكون عيسى عبداً وذلك قوله عز وجل { وَّإِن تَوَلَّوْاْ }" . { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } أي يكذبون بما أنزل الله { وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ } أي يقتلون أنبياء الله بغير سبب ولا جريمة إِلا لكونهم دعوهم إِلى الله، وهم اليهود قتلوا زكريا وابنه يحيى وقتلوا أنبياء الله، قال ابن كثير: "قتلت بنو إِسرائيل ثلاثمائة نبيّ من أول النهار، وأقاموا سوق بقلهم من آخره" { وَيَقْتُلُونَ ٱلَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِٱلْقِسْطِ مِنَ ٱلنَّاسِ } أي يقتلون الدعاة إِلى الله الذين يأمرون بالخير والعدل { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي أخبرهم بما يسرهم وهو العذاب الموجع المهين، والأسلوب للتهكم وقد استحقوا ذلك لأنهم جمعوا ثلاثة أنواع من الجرائم: الكفر بآيات الله، وقتل الأنبياء، وقتل الدعاة إِلى الله قال تعالى مبيناً عاقبة إِجرامهم { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } أي بطلت أعمالهم التي عملوها من البر والحسنات، ولم يبق لها أثر في الدارين، بل بقي لهم اللعنة والخزي في الدنيا والآخرة { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } أي ليس لهم من ينصرهم من عذاب الله أو يدفع عنهم عقابه.. ثم ذكر تعالى طرفاً من لَجَاج وعناد أهل الكتاب فقال { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ } أي ألا تعجب يا محمد من أمر هؤلاء الذين أوتوا نصيباً من الكتاب! فالصيغة صيغة تعجيب للرسول أو لكل مخاطب قال الزمخشري: يريد أحبار اليهود وأنهم حصلوا نصيباً وافراً من التوراة { يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَابِ ٱللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } أي يدعون إِلى التوراة كتابهم الذي بين أيديهم والذي يعتقدون صحته، ليحكم بينهم فيما تنازعوا فيه فيأبون { ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ } أي ثم يعرض فريق منهم عن قبول حكم الله، وهو استبعاد لتوليهم بعد علمهم بوجوب الرجوع إِليه، وجملة { وَهُمْ مُّعْرِضُونَ } تأكيد للتولي أي وهم قوم طبيعتهم الإِعراض عن الحق، والإِصرار على الباطل، والآية كما يقول المفسرون تشير إِلى قصة تحاكم اليهود إِلى النبي صلى الله عليه وسلم لما زنى منهم إثنان فحكم عليهما بالرجم فأبوا وقالوا: لا نجد في كتابنا إلا التحميم فجيء بالتوراة فوجد فيها الرجم فرجما، فغضبوا فشنَّع تعالى عليهم بهذه الآية { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } أي ذلك التولي والإِعراض بسبب افترائهم على الله وزعمهم أنهم أبناء الأنبياء وأن النار لن تصيبهم إلا مدةً يسيرة - أربعين يوماً - مدة عبادتهم للعجل { وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي غرهم كذبهم على الله { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ } أي كيف يكون حالهم يوم القيامة حين يجمعهم الله للحساب!! وهو استعظام لما يدهمهم من الشدائد والأهوال { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } أي نالت كل نفسٍ جزاءها العادل { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي لا يظلمون بزيادة العذاب أو نقص الثواب.
البَلاَغَة: 1- { إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ } الجملة معرّفة الطرفين فتفيد الحصر أي لا دين إِلا الإِسلام.
2- { ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } التعبير عن اليهود والنصارى بقوله "أوتوا الكتاب" لزيادة التشنيع والتقبيح عليهم فإِن الاختلاف مع علمهم بالكتاب في غاية القبح والشناعة.
3- { بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ } إِظهار الاسم الجليل لتربية المهابة وإِدخال الروعة في النفس.
4- { أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ } أطلق الوجه وأراد الكل فهو مجاز مرسل من إِطلاق الجزء وإِرادة الكل.
5- { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } الأصل في البشارة أن تكون في الخير واستعمالها في الشر للتهكم ويسمى "الأسلوب التهكمي" حيث نزّل الإِنذار منزلة البشارة السارة كقوله
{ { بَشِّرِ ٱلْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [النساء: 138] وهو أسلوبٌ مشهور.
فَائِدَة: قال القرطبي: في هذه الآية دليل على فضل العلم، وشرف العلماء، فإِنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن اسم العلماء، ويكفي في شرف العلم قوله لنبيه صلى الله عليه وسلم:
{ { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } [طه: 114] وقوله صلى الله عليه وسلم: "إِن العلماء ورثة الأنبياء" وفي حديث ابن مسعود أنَّ من قرأ قوله تعالى { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } الآية فإِنه يجاء به يوم القيامة فيقول الله تعالى: عبدي عهد إِليَّ عهداً وأنا أحقُّ من وفّى، أدخلوا عبدي الجنة.
لطيفَة: من أطرف ما قرأتُ في بيان فضل العلم تلك المحاورة اللطيفة بين العقل والعلم حيث يقول القائل وقد أبدع وأجاد:

علمُ العليمِ وعقلُ العاقل اختلفا من ذا الذي منهما قد أحرز الشرفا
فالعلم قال: أنا أحرزتُ غايتَه والعقلُ قال: أنا الرحمن بي عُرفا
فأفصح العلم إِفصاحاً وقال له بأيّنا الله في فرقانه اتّصفا
فبان للعقل أن العلم سيِّدُه فقبل العقل رأس العلم وانصرفا