خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً
٣٦
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِيۤ أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً
٣٧
مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُ سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً
٣٨
ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ ٱللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ٱللَّهَ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً
٣٩
مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً
٤٠
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً
٤١
وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً
٤٢
هُوَ ٱلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً
٤٣
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً
٤٤
يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً
٤٥
وَدَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً
٤٦
وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً
٤٧
وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّـلْ عَلَى ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِـيلاً
٤٨
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً
٤٩
يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ٱللاَّتِيۤ آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ ٱللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَٱمْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِيۤ أَزْوَاجِهِـمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
٥٠
تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِيۤ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ٱبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَىٰ أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً
٥١
لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً
٥٢
-الأحزاب

صفوة التفاسير

المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى صفات المؤمنين وما نالوه من الدرجات الرفيعة، أعقبها ببيان أن طاعة الرسول من طاعة الله، وأمر الرسول من أمر الله، ثم ذكّرهم تعالى بالنعمة العظمى وهي بعثة السراج المنير، المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وسلم.
اللغَة: { ٱلْخِيَرَةُ } مصدر بمعنى الاختيار من تخيَّر على غير قياس مثل الطيرة من تطيَّر { مُبْدِيهِ } أبدى الشيء: أظهره { وَطَراً } الوطر: الحاجة التي هي في النفس قال الزجاج: الوطر الحاجةُ التي لك فيها هِمَّة فإِذا بلغها الإِنسان يقال: قضى وطره، وقال المبرّد: الوطرُ: الشهوةُ يقال: ما قضيتُ من لقائك وَطَراً أي ما استمتعتُ بك كما تشتهي نفسي وأنشد:

وكيفَ ثَوابي بالمدينةِ بعدما قَضَى وطراً منها جميل بن معمر

{ حَرَجٍ } ضيق وإِثم { خَلَوْاْ } مضو وذهبوا { قَدَراً مَّقْدُوراً } قضاءً مقضياً في الأزل { بُكْرَةً } البُكرة: هي أول النهار { أَصِيلاً } الأصيل: آخر النهار { تُرْجِي } تؤخر يقال أرجيتُ الأمر وأرجأته إذا أخرته { تُؤْوِيۤ } تضم ومنه { آوَىۤ إِلَيْهِ أَخَاهُ } [يوسف: 69].
سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش لمولاه "زيد بن حارثة" فاستنكفت منه وكرهت وأبت فنزلت الآية { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ.. } الآية فأذعنت زينب حينئذٍ وتزوجته.. وفي رواية فامتنعت وامتنع أخوها عبد الله لنسبها من قريش فلما نزلت الآية جاء أخوها فقال يا رسول الله مرني بما شئت قال: فزوِّجها من زيد، فرضي وزوَّجها.
التفسِير: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ } أي لا ينبغي ولا يصح ولا يليق بأي واحدٍ من المؤمنين والمؤمنات { إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً } أي إذا أمر الله عز وجل وأمر رسوله بشيءٍ من الأشياء قال الصاوي: ذكرُ اسم الله للتعظيم وللإِشارة إلى أن قضاء رسول الله هو قضاء الله لكونه لا ينطق عن الهوى { أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } أي أن يكون لهم رأيٌ أو اختيار، بل عليهم الانقياد والتسليم، قال ابن كثير: وهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسولُه بشيءٍ فليس لأحدٍ مخالفته، ولا اختيار لأحدٍ ولا رأي ولا قول، ولهذا شدَّد النكير فقال: { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً } أي ومن يخالف أمر الله وأمر رسوله فقد حاد عن الطريق السوي، وأخطأ طريق الصواب، وضلَّ ضلالاً بيّناً واضحاً { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِيۤ أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ } أي اذكر أيها الرسول وقت قولك للذي أنعم الله عليه بالهداية للإِسلام { وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } بالتحرير من العبودية والإِعتاق، قال المفسرون: هو "زيد بن حارثة" كان من سبي الجاهلية اشترته "خديجة" ووهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكان مملوكاً عنده ثم أعتقه وتبنَّاه، وزوَّجه ابنة عمته "زينب بنت جحش" رضي الله عنها { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ } أي أمسكْ زوجتك زينب في عصمتك ولا تطلّقها، واتّقِ الله في أمرها { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ } أي وتضمر يا محمد في نفسك ما سيظهره الله وهو إرادة الزواج بها قال في التسهيل: الذي أخفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر جائز مباح لا إثم فيه ولا عتب، ولكنه خاف أن يقول الناس تزوج امرأة ابنه إذ كان قد تبناه، فأخفاه حياءً وحشمة وصيانة لعرضه من ألسنتهم، فالذي أخفاه صلى الله عليه وسلم هو إرادة تزوجها ليبطل حكم التبني فأبدى الله ذلك بأن قضى له بتزوجها { وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } أي تهاب أن يقول الناسُ تزوج محمد حليلة ابنه، واللهُ أحقُّ أن تخشاه وحده، وأن تجهر بما أوحاه إليك من أنك ستتزوج بها بعد أن يطلقها زيدٌ، قال ابن عباس: خشي أن يقول المنافقون: تزوج محمد امرأة ابنه { فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا } أي فلما قضى زيدٌ حاجته من نكاحها وطلَّقها زوجناك إياها يا محمد، وهذا نصٌ قاطع صريح على أن الذي أخفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو إرادة الزواج بها بعد تطليق زيدٍ لها تنفيذاً لأمر الوحي، لا حبُّه لها كما زعم الأفَّاكون، ومعنى { زَوَّجْنَاكَهَا } جعلناها زوجةً لك، قال المفسرون: إنَّ الذي تولَّى تزويجها هو الله جل وعلا، فلما انقضت عدتها دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا إذنٍ ولا عقدٍ ولا مهرٍ ولا شهود، وكان ذلك خصوصية للرسول صلى لله عليه وسلم روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
"كانت زينبُ تفخَر على أزواج النبي صلى لله عليه وسلم وتقول: زوَّجكُنَّ أهاليكُنَّ، وزوَّجني ربي من فوقِ سبع سموات" ثم ذكر تعالى الحكمة من هذا الزواج فقال: { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً } أي لئلا يكون في تشريع الله على المؤمنين ضيق ومشقة وتأثم في حق تزوج مطلقات الأبناء من التبني، إذا لم يبق لأزواجهن حاجة فيهن، قال ابن الجوزي: المعنى زوجناك زينب ـ وهي امرأة زيد الذي تبنَّيته ـ لكيلا يُظنَّ أن امرأة المتبنَّى لا يحل نكاحها { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً } أي وكان أمر الله لك، ووحيه إليك بتزوج زينب مقدَّراً محتماً كائناً لا محالة، ولما نفى الحرج عن المؤمنين، نفى الحرج عن سيد المرسلين بخصوصه على سبيل التكريم والتشريف فقال: { مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُ } أي لا حرج ولا إثم ولا عتاب على النبي فيما أباح الله له وقسم من الزوجات، قال الضحاك: كان اليهود عابوه بكثرة النكاح، فردَّ الله عليهم بقوله: { سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ } أي هذه سنة الله في جميع الأنبياء السابقين حيث وسَّع عليهم فيما أباح لهم، قال القرطبي: أي سنَّ لمحمد صلى الله عليه وسلم في التوسعة عليه في النكاح، سنة الأنبياء الماضية كداود وسليمان، فكان لداود مائة امرأة ولسليمان ثلاثمائة امرأة، عدا السُّريات { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً } أي قضاءً مقضياً، وحكماً مقطوعاً به من الأزل، لا يتغيَّر ولا يتبدَّل، ثم أثنى تعالى على جميع الأنبياء والمرسلين بقوله: { ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ ٱللَّهِ } أي هؤلاء الذين أخبرتك عنهم يا محمد وجعلتُ لك قدوة بهم، هم الذين يبلّغون رسالاتِ الله إلى من أُرسلوا إليه { وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ٱللَّهَ } أي يخافون الله وحده ولا يخافون أحداً سواه، فاقتد يا محمد بهم { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً } أي يكفي أن يكون الله محاسباً على جميع الأعمال والأفعال، فينبغي أن لا يُخْشى غيره، ثم أبطل تعالى حكم التبني الذي كان شائعاً في الجاهلية فقال: { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } قال المفسرون: لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب قال الناس: إن محمداً قد تزوج امرأة ابنه فنزلت هذه الآية قال الزمخشري: أي لم يكن أبا رجلٍ منكم على الحقيقة، حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح { وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ } أي ولكنّه عليه السلام آخر الأنبياء والمرسلين، ختم الله به الرسالات السماوية، فلا نبيَّ بعده قال ابن عباس: يريد: لو لم أختم به النبيّين لجعلتُ له ولداً يكون بعده نبياً { وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } أي هو العالم بأقوالكم وأفعالكم، لا تخفى عليه خافية من أحوالكم { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً } أي اذكروا الله بالتهليل والتحميد، والتمجيد والتقديس ذكراً كثيراً، بالليل والنهار، والسفر والحضر { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي وسبحوا ربكم في الصباح والمساء قال العلماء: خصهما بالذكر لأنهما أفضل الأوقات بسبب تنزل الملائكة فيهما { هُوَ ٱلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ } أي هو جل وعلا يرحمكم على الدوام، ويعتني بأمركم، وبكل ما فيه صلاحكم وفلاحكم { وَمَلاَئِكَتُهُ } أي وملائكتُه يصلون عليكم أيضاً بالدعاء والاستغفار وطلب الرحمة قال ابن كثير: والصلاةُ من الله سبحانه ثناؤه على العبد عند الملائكة، وقيل: الصلاة من الله الرحمةُ، ومن الملائكة: الدعاءُ والاستغفار { لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } أي لينقذكم من الضلالة إلى الهدى، ومن ظلمات العصيان إلى نور الطاعة والإِيمان { وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } أي واسع الرحمة بالمؤمنين، حيث يقبل القليل من أعمالهم، ويعفوا عن الكثير من ذنوبهم، لإِخلاصهم في إيمانهم { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ } أي تحية هؤلاء المؤمنين يوم يلقون ربهم السلامُ والإِكرام في الجنة من الملك العلاّم كقوله تعالى { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [يس: 58] { وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً } أي وهيأ لهم أجراً حسناً وهو الجنة وما فيها من النعيم المقيم، قال ابن كثير: والمراد بالأجر الكريم الجنةُ وما فيها من المآكل والمشارب، والملابس والمساكن، والملاذّ والمناظر، مما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر، ثم لما بيَّن تعالى أنه أخرج المؤمنين من ظلمات الكفر والضلال إلى أنوار الهداية والإِيمان، عقَّبه بذكر أوصاف السراج المنير الذي أضاء الله به الأكوان فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً } أي شاهداً على أمتك وعلى جميع الأمم بأن أنبيائهم قد بلغوهم رسالة ربهم { وَمُبَشِّراً } أي مبشراً للمؤمنين بجنات النعيم { وَنَذِيراً } أي ومنذراً للكافرين من عذاب الجحيم { وَدَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ بِإِذْنِهِ } أي وداعياً للخلق إلى توحيد الله وطاعته وعبادته، بأمره جل وعلا لا من تلقاء نفسك { وَسِرَاجاً مُّنِيراً } أي وأنت يا محمد كالسراح الوهَّاج المضيء للناس، يُهْتدى بك في الدهماء، كما يُهْتدى بالشهاب في الظلماء، قال ابن كثير: أي أنت يا محمد كالشمس في إشراقها وإِضاءتها لا يجحدها إلا معاند وقال الزمخشري: شبَّهه بالسراج المنير لأن الله جلى به ظلمات الشركِ، واهتدى به الضالون، كما يُجلى ظلامُ الليل بالسراج المنير ويُهْتدى به، وصفه تعالى بخسمة أوصاف كلُّها كمالٌ وجمال، وثناءٌ وجلال، وختمها بأنه صلوات الله عليه هو السراج الوضاء الذي بدَّد الله به ظلمات الضلال، فصلواتُ ربي وسلامه عليه في كل حين وآن { وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً } أي وبشر يا محمد المؤمنين خاصة بأنَّ لهم من الله العطاء الواسع الكبير في جنات النعيم { وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ } أي لا تطعهم فيما يطلبونه منك من المساهلة والملاينة في أمر الدين، بل اثبت على ما أُوحي إليك { وَدَعْ أَذَاهُمْ } أي ولا تكترث بإِذايتهم لك، وصدّهم الناسَ عنك { وَتَوَكَّـلْ عَلَى ٱللَّهِ } أي واعتمد في جميع أمورك وأحوالك على الله { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِـيلاً } أي إن الله يكفي من توكل عليه في أمور الدنيا والآخرة قال الصاوي: وفي الآية إشارة إلى أن التوكل أمره عظيم، فمن توكل على الله كفاه ما أهمَّه من أمور الدنيا والدين، ولما كان الحديث عن نساء النبي صلى الله عليه وسلم وقصة زيد وتطليقه لزينب، جاء الحديث عن نساء المؤمنين والطريقة المثلى في تطليقهن فقال تعالى { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ } أي يا أيها المؤمنون الذين صدَّقوا بالله ورسوله إذا عقدتم عقد الزواج على المؤمنات وتزوجتموهن { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } أي ثم طلقتموهنَّ من قبل أن تجامعوهنَّ، وإنما خصَّ المؤمنات بالذكر مع أن الكتابيات يدخلن في الحكم، للتنبيه على أن الأليق بالمسلم أن يتخيَّر لنطفته، وألاّ ينكح إلا مؤمنة عفيفة { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } أي فليس لكم عليهم حق في العدة تستوفون عددها عليهن، لأنكم لم تعاشروهن فليس هناك احتمال للحمل حتى تحتسبوا المرأة من أجل صيانة نسبكم { فَمَتِّعُوهُنَّ } أي فالواجب عليكم إكرامهن بدفع المتعة بما تطيب نفوسكم به من مالٍ أو كسوةٍ، تطييباً لخاطرهن، وتخفيفاً لشدة وقع الطلاق عليهن { وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } أي وخلّوا سبيلهنَّ تخليةً بالمعروف، من غير إضرار ولا إيذاء، ولا هضمٍ لحقوقهن، قال أبو حيان: والسراحُ الجميلُ هو كلمة طيبة دون أذى ولا منع واجب، ثم ذكر تعالى ما يتعلق بأحوال زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ٱللاَّتِيۤ آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } أي إنا قد أبحنا لك يا محمد أنواعاً من النساء، توسعة عليك وتيسيراً لك في تبليغ الدعوة، فمن ذلك أننا أبحنا لك زوجاتك اللاتي تزوجتهن بصداقٍ مُسمَّى، وهُنَّ في عصمتك { وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ } أي وأبحنا لك أيضاً النساء اللاتي تملكهن في الحرب بطريق الانتصار على الكفار، وإِنما قيَّدهن بطريق الغنائم لأنهن أفضلُ من اللائي يُمْلكن بالشراء، فقد بذل في إحرازهنَّ جهدٌ ومشقة لم يكن في الصف الثاني { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ ٱللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } أي وأبحنا لك قريباتك من بنات الأعمام والعمات، والأخوال والخالات بشرط الهجرة معك { وَٱمْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } أي وأحللنا لك النساء المؤمناتِ الصالحات اللواتي وهبن أنفسهن لك، حباً في الله ورسوله وتقرباً لك { إِنْ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا } أي إن أردت يا محمد أن تتزوج من شئت منهم بدون مهر { خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي خاصة لك يا محمد من دون سائر المؤمنين، فإِنه لا يحل لهم التزوج بدون مهر، ولا تصح الهبة، بل يجب مهر المثل { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِيۤ أَزْوَاجِهِـمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } أي قد علمنا ما أوجبنا على المؤمنين من نفقةٍ، ومهر، وشهود في العقد، وعدم تجاوز أربع من النساء، وما أبحنا لهم من ملك اليمين عدا الحرائر، وأما أنت فقد خصصناك بخصائص تيسيراً لك { لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } أي لئلا يكون عليك مشقة أو ضيق { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } أي عظيم المغفرة واسع الرحمة { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِيۤ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ } أي ولك ـ أيها النبي ـ الخيار في أن تطلق من تشاء من زوجاتك، وتُمسك من تشاء منهن { وَمَنِ ٱبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } أي وإِذا أحببتَ أن تؤوي إليك امرأة ممن عزلتَ من القسمة فلا إثم عليك ولا عتب { ذَلِكَ أَدْنَىٰ أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } أي ذلك التخيير الذي خيرناك في أمرهنَّ أقرب أن ترتاح قلوبهن فلا يحزنَّ، ويرضين بصنيعك، لأنهن إذا علمن أن هذا أمرٌ من الله، كان أطيب لأنفسهن فلا يشعرن بالحزن والألم { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ } خطابٌ للنبي على جهة التعظيم أي يعلم ما في قلبك يا محمد وما في قلب كل إنسان، من عدل أو ميل، ومن حب أو كراهية، وإِنما خيرناك فيهن تيسيراً عليك فيما أردت { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً } أي واسع العلم يعلم جميع ما تظهرون وما تخفون، حليماً يضع الأمور في نصابها ولا يعاجل بالعقوبة، بل يُؤخر ويمهل لكنه لا يُهْمل، روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كنتُ أغار من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم وأقول: اتهبُ المرأة نفسها؟ فلما نزلت { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِيۤ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ٱبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } قلت: ما أرى ربك إلاّ يسارع في هواك" ثم قال تعالى { لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ } أي لا يحل لك أيها النبي النساء من بعد هؤلاء التسع اللاتي في عصمتك { وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } أي ولا يحل لك أن تطلّق واحدة منهن وتنكح مكانها أُخرى { وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } أي ولو أعجبك جمال غيرهن من النساء { إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } أي إلا ما كان من الجواري والإِماء فلا بأس في ذلك لأنهن لسن زوجات { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً } أي مطلعاً على أعمالكم شاهداً عليها، وفيه تحذير من مجاوزة حدوده، وتخطي حلاله وحرامه. قال المفسرون: أباح الله لرسوله أصنافاً أربعة "الممهورات، المملوكات، المهاجرات، الواهبات أنفسهن" توسعة عليه صلى الله عليه وسلم وتيسيراً له في نشر الرسالة وتبليغ الدعوة، ولما نزلت آية التخيير { قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا.. } [الأحزاب: 28] الآية، وخيَّرهن عليه السلام، واخترن الله ورسوله والدار الآخرة، أكرمهن الله تعالى بأن قصره عليهن، وحرَّم عليه أن يتزوج بغيرهن.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1- التنكير لإِفادة العموم { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ } لأن النكرة في سياق النفي تفيد العموم، أي ليس لواحدٍ منهم أن يريد غير ما أراده الله ورسوله.
2- الطباق بين { تُخْفِي .. مُبْدِيهِ } وبين { ٱلظُّلُمَاتِ ..و.. ٱلنُّورِ } وبين { مُبَشِّراً ..و.. نَذِيراً } وهو من المحسنات البديعية.
3- جناس الاشتقاق { قَدَراً مَّقْدُوراً }.
4- طباق السلب { وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً }.
5- التشبيه البليغ { وَسِرَاجاً مُّنِيراً } أصل التشبيه: أنت يا محمد كالسراج الوضاء في الهداية والإرشاد، حذفت منه أداة التشبيه ووجه الشبه فأصبح بليغاً على حد قولهم: علي أسدٌ، ومحمدٌ قمر.
6- الكناية { مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } كنَّى عن الجماع بالمسِّ وهي من الكنايات المشهورة، ومن الآداب القرآنية الحميدة لأن القرآن يتحاشى الألفاظ البذيئة.
7- الطباق بين { بُكْرَةً ..و.. أَصِيلاً } وبين { تُرْجِي ..و.. َتُؤْوِيۤ } وبين { ٱبْتَغَيْتَ ..و.. عَزَلْتَ }.
8- توافق الفواصل ممّا يزيد في الجمال والإِيقاع على السمع مثل { وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً .. وَسِرَاجاً مُّنِيراً } ومثل { سَرَاحاً جَمِيلاً .. عَلِيماً حَلِيماً.. غَفُوراً رَّحِيماً } وهذا من خصائق القرآن العظيم، وهو من المحسنات البديعية.