خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ
١
إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ فَٱعْبُدِ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ
٢
أَلاَ لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَـفَّارٌ
٣
لَّوْ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ
٤
خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ يُكَوِّرُ ٱللَّيْـلَ عَلَى ٱلنَّهَـارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّـهَارَ عَلَى ٱللَّيْلِ وَسَخَّـرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُـلٌّ يَجْرِي لأَجَـلٍ مُّسَـمًّى أَلا هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفَّارُ
٥
خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُـمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ
٦
إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُـمْ فَيُنَبِّئُكُـمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
٧
وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوۤ إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ
٨
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ ٱلَّيلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
٩
قُلْ يٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ
١٠
قُلْ إِنِّيۤ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ
١١
وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ ٱلْمُسْلِمِينَ
١٢
قُلْ إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
١٣
قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي
١٤
فَٱعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ
١٥
لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ ٱللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يٰعِبَادِ فَٱتَّقُونِ
١٦
وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فَبَشِّرْ عِبَادِ
١٧
ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَاهُمُ ٱللَّهُ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
١٨
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي ٱلنَّارِ
١٩
لَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَعْدَ ٱللَّهِ لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ ٱلْمِيعَادَ
٢٠
-الزمر

صفوة التفاسير

اللغَة: { زُلْفَىۤ } قربى ومنه { وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ } [الشعراء: 90] أي قرّبت لهم { يُكَوِّرُ } التكوير: اللَّفُ والليُّ يقال: كوَّر العمامة أي لفَّها { خَوَّلَهُ } أعطاه وملَّكه { قَانِتٌ } مطيع خاضع عابد { أَندَاداً } أوثاناً وأصناماً { ظُلَلٌ } جمع ظُلَّة وهي ما يُظل الإِنسان من سقف ونحوه { ٱلطَّاغُوتَ } من الطغيان وهو مجاوزة الحدِّ والمراد بالطاغوت كل ما عُبد من دون الله من وثن أو بشر أو حجر { أَنَابُوۤاْ } رجعوا { غُرَفٌ } منازل رفيعة عالية في الجنة، والغرفة: المنزلة والمكانة السامية ومنه { أُوْلَـٰئِكَ يُجْزَوْنَ ٱلْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ } [الفرقان: 75].
التفسِير: { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } أي هذا القرآن تنزيلٌ من الله جل وعلا { ٱلْعَزِيزِ } أي القادر الذي لا يُغلب { ٱلْحَكِيمِ } أي الذي يفعل كل شيء بحكمةٍ وتقدير وتدبير { إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ } أي نحن أنزلنا عليك يا محمد القرآن العظيم متضمناً الحق الذي لا مرية فيه، والصدق الذي لا يشوبه باطل أو هزل { فَٱعْبُدِ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ } أي فاعبد الله وحده مخلصاً له في عبادتك، ولا تقصد بعملك ونيتك غير ربك { أَلاَ لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ } أي ألا فانتبهوا أيها الناس: إن الله تعالى لا يقبل إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم لأنه المتفرد بصفات الألوهية، المطَّلع على السرائر والضمائر، ومعنى "الخالص" الصافي من شوائب الشرك والرياء { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } أي وهؤلاء المشركون الذين عبدوا من دونه الأوثان يقولون { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } أي ما نعبد هذه الآلهة والأصنام إلا ليقربونا إلى الله قربى ويشفعوا لنا عنده قال الصاوي: كان المشركون إذا قيل لهم: من خلقكم؟ ومن خلق السماواتِ والأرض؟ ومن ربكم ورب آبائكم الأولين؟ فيقولون: الله، فيقال لهم: فما معنى عبادتكم الأصنام؟ فيقولون: لتقربنا إلى الله زلفى وتشفع لنا عنده { إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي يحكم بين الخلائق يوم القيامة فيما اختلفوا فيه من أمر الدين، فيدخل المؤمنين الجنة، والكافرين النار { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَـفَّارٌ } أي لا يوفق للهدى، ولا يرشد للدين الحق من كان كاذباً على ربه، مبالغاً في كفره، وفي الآية إشارة إلى كذبهم في تلك الدعوى { لَّوْ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } أي لو شاء الله اتخاذ ولد على سبيل الفرض والتقدير { لاَّصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } أي لاختار من مخلوقاته ما يشاء ولداً على سبيل التبني ـ إذ يستحيل أن يكون ذلك في حقه تعالى بطريق التوالد المعروف ـ ولكنه لم يشأ ذلك لقوله
{ { وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَـٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } [مريم: 92] وقوله { مِمَّا يَخْلُقُ } أي من المخلوقات التي أنشأها واخترعها { سُبْحَانَهُ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } أي تنزه جل وعلا وتقدس عن الشريك والولد، لأنه هو الإِله الواحد الأحد، المنزَّه عن النظير والمثيل، القاهر لعباده بعظمته وجلاله قال في التسهيل: نزَّه تعالى نفسه من اتخاذ الولد، ثم وصف نفسه بالواحد لأن الوحدانية تنافي اتخاذ الولد، لأنه لو كان له ولدٌ لكان من جنسه ولا جنس له لأنه واحد، ووصف نفسه بالقهار ليدل على نفي الشركاء والأنداد، لأن كل شيء مقهور تحت قهره تعالى، فكيف يكون شريكاً له؟ ثم ذكر تعالى دلائل قدرته وحدانيته وعظمته، فقال: { خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ } أي خلقهما على أكمل الوجوه وأبدع الصفات، بالحق الواضح والبرهان الساطع { يُكَوِّرُ ٱللَّيْـلَ عَلَى ٱلنَّهَـارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّـهَارَ عَلَى ٱللَّيْلِ } أي يغشي الليل على النهار، ويغشي النهار على الليل، وكأنه يلفُّ عليه لفَّ اللباس على اللابس قال القرطبي: وتكويرُ الليل على النهار تغشيتُه إياه حتى يُذهب ضوءه، ويغشي النهار على الليل فيذهب ظلمته وهذا منقول عن قتادة وهو معنى قوله تعالى: يُغشي الليلَ النهار يطلبه حثيثاً { وَسَخَّـرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ } أي ذلَّلهما لمصالح العباد { كُـلٌّ يَجْرِي لأَجَـلٍ مُّسَـمًّى } أي كلٌ منهما يسير إلى مدة معلومة عند الله تعالى، ثم ينقضي يوم القيامة حين تكور الشمس وتنكدر النجوم { أَلا هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفَّارُ } أي هو جل وعلا كامل القدرة لا يغلبه شيء، عظيم الرحمة والمغفرة والإِحسان قال الصاوي: صُدِّرت الجملة بحرف التنبيه "ألا" للدلالة على كمال الاعتناء بمضمونها كأنه قال: تنبهوا يا عبادي فإِني أنا الغالب على أمري، الستَّار لذنوب خلقي فأخلصوا عبادتكم ولا تشركوا بي أحداً. { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } أي خلقكم أيها الناس من نفسٍ واحدة هي آدم، وهذا من جملة أدلة وحدانيته، وانفراده بالعزة والقهر، وجميع صفات الألوهية { ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } أي ثم خلق من آدم حواء ليحصل التجانس والتناسل قال الطربي: المعنى: { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } يعني آدم (ثم خلق منها زوجها) يعني حواء خلقها من ضلعٍ من أضلاعه { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } أي وأوجد لكم من الأنعام المأكولة وهي ـ الإِبل، والبقر، والغنم، والمعز، ثمانية أزواج من كل نوعٍ ذكراً وأنثى قال قتادة: من الإِبل اثنين، ومن البقر اثنين، ومن الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، كلُّ واحدٍ زوج، وسميت أزواجاً لأن الذكر زوج الأنثى، والأنثى زوج الذكر قال المفسرون: والإِنزالُ عبارةٌ عن نزول أمره وقضائه { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُـمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ } أي يخلقكم في بطون أمهاتكم أطواراً، فإِن الإِنسان يكون نطفة، ثم علقة، ثم مضغة إلى أن يتم خلقه، ثم ينفخ فيه الروح فيصير خلقاً آخر { فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ } هي البطن، والرحم، والمشيمة، وهو ـ الكيس الذي يغلّفُ الجنين ـ { ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ } أي ذلكم الخالق المبدع المصوّر هو الله ربُّ العالمين، ربكم وربُّ آبائكم الأولين { لَهُ ٱلْمُلْكُ } أي له الملك والتصرف التام، في الإِيجاد والإِعدام { لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } أي لا معبود بحقٍ إلا الله ولا ربَّ لكم سواه { فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ }؟ أي فكيف تنصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره؟ ثم بعد أن ذكَّرهم بآياته ونعمه، حذَّرهم من الكفر والجحود لفضله وإحسانه فقال { إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ } أي إن تكفروا أيها الناس بعدما شاهدتم من آثار قدرته وفنون نعمائه، فإِن الله مستغنٍ عنكم وعن إيمانكم وشكركم وعبادتكم { وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ } أي لا يرضى الكفر لأحدٍ من البشر قال الرازي: أشار تعالى إلى أنه وإِن كان لا ينفعه إيمان، ولا يضره كفران، إلا أنه لا يرضى بالكفر بمعنى أنه لا يمدح صاحبه ولا يثيبه عليه وإِن كان واقعاً بمشيئته وقضائه { وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ } أي وإِن تشكروا ربكم يرضى هذا الشكر منكم، لأجلكم ومنفعتكم لا لانتفاعه بطاعتكم قال أبو السعود: عدم رضائه بكفر عباده لأجل منفعتهم ودفع مضرَّتهم، رحمة بهم لا لتضرره تعالى بذلك، ورضاه بشكرهم لأجلهم ومنفعتهم لأنه سبب فوزهم بسعادة الدارين، ولهذا فرَّق بين اللفظين فقال "ولا يرضى لعباده الكفر" وقال هنا "يرضه لكم" لأن المراد بالأول تعميم الحكم ثم تعليله بكونهم عباده { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } أي ولا تحمل نفسٌ ذنب نفسٍ أخرى، بل كلٌ يؤاخذ بذنبه { ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُـمْ } أي ثم مرجعكم ومصيركم إليه تعالى { فَيُنَبِّئُكُـمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي فيحاسبكم ويجازيكم على أعمالكم { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } أي يعلم ما تكنه السرائر وتخفيه الضمائر، وفيه تهديدٌ وبشارة للمطيع { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ } أي وإِذا أصاب الإِنسان الكافر شدة من فقر ومرضٍ وبلاء { دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ } أي تضرع إلى ربه في إزالة تلك الشدة، مقبلاً إليه مخبتاً مطيعاً { ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ } أي ثم إذا أعطاه نعمةً منه وفرَّج عنه كربته { نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوۤ إِلَيْهِ مِن قَبْلُ } أي نسي الضر الذي كان يدعو ربه لكشفه وتمرَّد وطغى { وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ } أي وجعل لله شركاء في العبادة ليصد عن دين الله وطاعته { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً } أمرٌ للتهديد أي تمتع بهذه الحياة الدنيا الفانية، وتلذَّذ فيها وأنت على كفرك، عمراً قليلاً وزمناً يسيراً { إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ } أي فمصيرك إلى نار جهنم، وأنت من المخلدين فيها { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ ٱلَّيلِ سَاجِداً وَقَآئِماً } استفهام حذف جوابه لدلالة الكلام عليه أي أم من هو مطيع عابد في ساعات الليل يتعبد ربه في صلاته ساجداً وقائماً كمن أشرك بالله وجعل له أنداداً؟ قال القرطبي: بيَّن تعالى أن المؤمن ليس كالكافر الذي مضى ذكره { يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ } أي حال كونه خائفاً من عذاب الآخرة، راجياً رحمة ربه وهي الجنة، هل يستوي هذا المؤمن التقي مع ذلك الكافر الفاجر؟ لا يستوون عند الله، ثم ضرب مثلاً فقال { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }؟ أي هل يتساوى العالم والجاهل؟ فكما لا يستوي هذان كذلك لا يستوي المطيع والعاصي { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } أي إنما يعتبر ويتعظ أصحاب العقول السليمة قال الإِمام الفخر: واعلم أن هذه الآية دالة على أسرار عجيبة، فأولها أنه بدأ فيها بذكر العمل، وختم فيها بذكر العلم، أما العمل فهو القنوت، والسجود، والقيام، وأما العلم ففي قوله { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }؟ وهذا يدل على أن كمال الإِنسان محصورٌ في هذين المقصودين، فالعمل هو البداية، والعلم والمكاشفة هو النهاية، وفي الكلام حذف تقديره أمَّنْ هو قانتٌ كغيره؟ وإِنما حسن هذا الحذف لدلالة الكلام عليه، لأنه تعالى ذكر قبل هذه الآية الكافر، ثم مثَّل بالذين يعلمون، وفيه تنبيه عظيم على فضيلة العلم { قُلْ يٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ } أي قل يا محمد لعبادي المؤمنين يجمعوا بين الإِيمان وتقوى الله وهي البعدُ عن محارم الله قال المفسرون: نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين عزموا على الهجرة إلى أرض الحبشة والغرضُ منها التأنيس لهم والتنشيط إلى الهجرة ومعنى التقوى: امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، وكأن العبد بذلك يجعل بينه وبين النار وقاية { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةٌ } أي لمن أحسن العمل في هذه الدنيا حسنة عظيمة في الآخرة وهي الجنة دار الأبرار { وَأَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةٌ } أي وأرض الله فسيحة فهاجروا من دار الكفر إلى دار الإِيمان، ولا تقيموا في أرضٍ لا تتمكنون فيها من إقامة شعائر الله { إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي إنما يعطى الصابرون جزاءهم بغير حصر، وبدون عدد أو وزن قال الأوزاعي: ليس يوزن لهم ولا يكال إنما يغرف غرفاً { قُلْ إِنِّيۤ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ } أي قل يا محمد أُمرت بإِخلاص العبادة لله وحده لا شريك له قال المفسرون: وإِنما خص الله تعالى الرسول بهذا الأمر لينبه على أنَّ غيره بذلك أحق فهو كالترغيب للغير { وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ ٱلْمُسْلِمِينَ } أي وأُمرت أيضاً بأن أكون أولَ المسلمين من هذه الأمة قال القرطبي: وكذلك كان، فإِنه أول من خالف دين آبائه وخلع الأصنام وحطمها، وأسلم وجهه لله وآمن به ودعا إليه { قُلْ إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي وأخاف إن عصيت أمره أن يعذبني يوم القيامة بنار جهنم قال الصاوي: والمقصود منها زجر الغير عن المعاصي، لأنه صلى الله عليه وسلم إِذا كان خائفاً مع كمال طهارته وعصمته فغيره أولى، وذلك سنة الأنبياء والصالحين حيث يخبرون غيرهم بما اتصفوا به ليكونوا مثلهم { قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي } أي قل لهم يا محمد لا أعبد إلا الله وحده، مخلصاً له طاعتي وعبادتي من كل شائبة، وليس هذا بتكرار لأن الأول إخبار بأنه صلى الله عليه وسلم مأمور بالعبادة، والثاني إخبار بخوفه من عذاب الله إن عصى أمره، والثالث إخبار بامتثاله الأمر مع إفادة الحصر كأنه يقول: أعبد الله ولا أعبد أحداً سواه { فَٱعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ } صيغة أمر على جهة التهديد والوعيد أي اعبدوا ما شئتم من دون الله من الأوثان والأصنام فسوف ترون عاقبة كفركم كقوله { ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ } [فصلت: 40] { قُلْ إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } أي حقيقة الخسران الذين خسروا أنفسهم وأهليهم، حيث صاروا إلى نار مؤبدة يصلون سعيرها يوم القيامة، فهؤلاء هم الخاسرون كل الخسران قال ابن عباس: إنَّ لكل رجلٍ منزلاً وأهلاً وخدماً في الجنة، فإِن أطاع اللهَ أُعطي ذلك، وإِن كان من أهل النار حُرم ذلك، فخسر نفسه وأهله ومنزله { أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ } أي ألا فانتبهوا أيها القوم ذلك هو الخسرانُ الواضح الذي ليس بعده خسرانٌ! قال أبو حيان: بالغ في بيان الخسران بأداة التنبيه "ألاَ" وبالإِشارة إليه "ذلك" وتأكيده بأداة الحصر "هو" وتعريفه بأل ووصفه بأنه بيّن { ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ } أي الواضح لمن تأمله أدنى تأمل، ثم لما ذكر خسرانهم في الدنيا ذكر حالهم ومآلهم في الآخرة فقال { لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } أي تغشاهم نار جهنم من فوقهم ومن تحتهم، وتحيط بهم من جميع جوانبهم، ومعنى الظلل أطباقٌ من نار جنهم، وتسميتها ظُللاً تهكمٌ بهم، لأنها محرقة والظلةُ تقي من الحر { ذَلِكَ يُخَوِّفُ ٱللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ } أي ذلك العذاب الشديد الفظيع، إِنما يقصه تعالى ليخوف به عباده، لينزجروا عن المحارم والمآثم { يٰعِبَادِ فَٱتَّقُونِ } أي يا أوليائي خافوا عذابي ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي، قال الزمخشري: وهذه عظة من الله تعالى لعباده ونصيحة بالغة.. والحكمة من ذكر أحوال النار تخويف المؤمنين منها ليتقوها بطاعة ربهم { وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا } لما ذكر وعيد عبدة الأوثان، ذكر وعد أهل الفضل والإِحسان، ممن احترز عن الشرك والعصيان، ليكون الوعد مقروناً بالوعيد، فيحصل كمال الترغيب والترهيب والمعنى: والذين انتهوا عن عبادة الأوثان وطاعة الشيطان، وتباعدوا عنها كل البعد قال أبو السعود: "الطاغوت" البالغ أقصى غاية الطغيان كالرحموت والعظموت، والمراد به الشيطان وصف به للمبالغة { وَأَنَابُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ } أي رجعوا إلى طاعة الله وعبادته { لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ } أي لهم البشرى السارة من الله تعالى بالفوز العظيم بجنات النعيم { فَبَشِّرْ عِبَادِ * ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } أي فبشِّر عبادي المتقين الذين يستمعون الحديث والكلام فيتبعون أحسن ما فيه قال ابن عباس: هو الرجل يسمع الحسن والقبيح، فيتحدث بالحسن وينكف عن القبيح فلا يتحدث به.. وهذا ثناء من الله تعالى عليهم بنفوذ بصائرهم، وتمييزهم الأحسن من الكلام، فإِذا سمعوا قولاً تبصَّروه وعملوا بما فيه، وأحسنُ الكلام كلام الله وخير الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم وإنما وضع الظاهر { فَبَشِّرْ عِبَادِ } بدل الضمير (فبشرهم) تشريفاً لهم وتكريماً بالإِضافة إليه سبحانه { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَاهُمُ ٱللَّهُ } أي أولئك المتصفون بتلك الصفات الجليلة هم الذين هداهم الله لما يرضاه، ووفقهم لنيل رضاه { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } أي وأولئك هم أصحاب العقول السليمة، والفطر المستقيمة { أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ } أي أفمن وجبت له الشقاوة من الله تعالى، وجوابه محذوفٌ دلَّ عليه ما بعده أي هل تقدر على هدايته؟ لا ثم قال تعالى { أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي ٱلنَّارِ }؟ أي هل تستطيع يا محمد أن تنقذ من هو في الضلال والهلاك؟ قال القرطبي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على إِيمان قومه وقد سبقت لهم من الله الشقاوة فنزلت الآية، وقال ابن عباس: يريد "أبا لهب" وولده ومن تخلَّف من عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم عن الإِيمان، وكرر الاستفهام "أفأنت" تأكيداً لطول الكلام والمعنى: أفمن حقَّ عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذه؟ { لَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ رَبَّهُمْ } أي لكنْ المؤمنين الأبرار، المتقون للهِ في الدنيا، المتمسكون بشريعته وطاعته { لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ } أي لهم في الجنة درجات عالية وقصورٌ شاهقة بعضها فوق بعض مبنية من زبرجدٍ وياقوت { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أي تجري من تحت قصورها وأشجارها أنهار الجنة من غير أخدود { وَعْدَ ٱللَّهِ لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ ٱلْمِيعَادَ } أي وعدهم الله بذلك وعداً مؤكداً لا يمكن أن يتخلف لأنه وعد العزيز القدير.
تنبيه: قال الزمخشري: أفاد قوله تعالى { يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } أن المؤمنين ينبغي أن يكونوا نُقَّاداً في الدين، يميزون بين الحسن والأحسن، والفاضل والأفضل، ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها دليلاً، وأبينها أمارة، وألا يكونوا في مذهبهم كما قال القائل "ولا تكن مثل عيرٍ قيد فانقادا".