خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى ٱلأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ ٱلَّذِيۤ أَحْيَاهَا لَمُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٣٩
إِنَّ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيۤ آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ أَفَمَن يُلْقَىٰ فِي ٱلنَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِيۤ آمِناً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٤٠
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلذِّكْرِ لَمَّا جَآءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ
٤١
لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ
٤٢
مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ
٤٣
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ
٤٤
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ فَٱخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ
٤٥
مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لِّلْعَبِيدِ
٤٦
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِي قَالُوۤاْ آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ
٤٧
وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ
٤٨
لاَّ يَسْأَمُ ٱلإِنْسَانُ مِن دُعَآءِ ٱلْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ ٱلشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ
٤٩
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَـٰذَا لِي وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّيۤ إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ فَلَنُنَبِّئَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ
٥٠
وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ
٥١
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ
٥٢
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
٥٣
أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ
٥٤
-فصلت

صفوة التفاسير

المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى صفات المؤمنين الأبرار، وأردفها بذكر الدلائل الدالة على وجوده سبحانه ووحدانتيه، وكمال علمه وحكمته، ذكر هنا ما يدل على البعث والنشور، من صفحات هذا الكون المنظور، ثم أعقبه بذكر الملحدين في آياته، المكذبين برسله وأنبيائه، وختم السورة الكريمة ببيان حال الأشقياء المجرمين، المنكرين للقرآن العظيم.
اللغَة: { يُلْحِدُونَ } يميلون عن الحق والاستقامة، والإِلحادُ: الميلُ والعدول يقال: ألحد في دين الله أي حاد عنه وعدل { أعْجَمِيّاً } بلغة العجم { وَقْرٌ } صممٌ مانع من سماعه { أَكْمَامِهَا } جمع كُمَّ وهو وعاء الثمرة بضم الكاف وكسرها { مَّحِيصٍ } فرار ومهرب من حاص يحيصُ حيصاً إذا هرب { نَأَى } تباعد وأعرض { ٱلآفَاقِ } أقطار السماوات والأرض { مِرْيَةٍ } شك وارتياب عظيم.
التفسِير: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى ٱلأَرْضَ خَاشِعَةً } أي ومن البراهين والعلامات الدالة على وحدانيته وكمال قدرته، أنك ترى الأرض يابسة جرداء لا نبات فيها، تشبه الرجل الخاضع الذليل { فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ } أي فإِذا أنزلنا عليها المطر تحركت حركة شديدة وانتفخت وعلت بالنبات، وأخرجت من جميع ألوان الزروع والثمار { إِنَّ ٱلَّذِيۤ أَحْيَاهَا لَمُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ } أي إن الإِله الذي أحيا الأرض بعد موتها هو الذي يحيي الأموات ويبعثهم من القبور { إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي لا يعجزه جل وعلا شيءٌ، فكما أخرج الزروع والثمار من الأرض المجدبة، فإِنه قادر على إحياء الموتى .. ثم توعَّد تعالى من يلحد في آياته بعد ظهور الأَدلة والبراهين على وجوده فقال { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيۤ آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ } أي إن الذين يطعنون في آياتنا، بالتحريف والتكذيب والإِنكار لها لا يغيب أمرهم عنا فنحن لهم بالمرصاد، وفيه وعيد وتهديد قال قتادة: الإِلحادُ الكفر والعناد وقال ابن عباس: هو تبديلُ الكلام ووضعه في غير موضعه { أَفَمَن يُلْقَىٰ فِي ٱلنَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِيۤ آمِناً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } أي أفمن يُطرح في جهنم مع الخوف والفزع أفضل أم من يكون في الجنة آمناً من عذاب الله يوم القيامة؟ قال الرازي: والغرضُ التنبيهُ على أن الملحدين في آيات الله يُلقون في النار، وأن المؤمنين بآيات الله يكونون آمنين يوم القيامة، وشتَّان ما بينهما { ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ } أي افعلوا ما تشاءون في هذه الحياة، وهو تهديدٌ لا إباحة ملفَّع بظل الوعيد، بدليل قوله تعالى { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي هو تعالى مطّلع على أعمالكم، لا تخفى عليه خافية، من أحوالكم، وسيجازيكم عليها { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلذِّكْرِ لَمَّا جَآءَهُمْ } أي إن الذين كذبوا بالقرآن حين جاءهم من عند الله، وخبر "إنَّ" محذوفٌ لتهويل الأمر كأنه قيل: سيجازون بكفرهم جزاءً لا يكاد يوصف لشدة بشاعته وفظاعته { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ } أي وإِنه لكتاب غالب بقوة الحجة، لا نظير له لما احتوى عليه من الإِعجاز، يدفع كل جاحد، ويقمع كلَّ معاند { لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } أي لا يتطرق إليه الباطل من جهةٍ من الجهات، ولا مجال للطعن فيه قال ابن كثير: أي ليس للبطلان إليه سبيل، لأنه منزَّل من رب العالمين { تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } أي هو تنزيلٌ من إله حكيم في تشريعه وأحواله وأفعاله، محمود من خلقه بسبب كثرة نعمه .. ثم سلَّى تعالى نبيَّه على ما يصيبه من أذى الكفار فقال { مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } أي ما يقول لك كفار قومك، إلاّ ما قد قال الكفار للرسل قبلهم من الكلام المؤذي، والطعن فيما أنزل الله قال القرطبي: يُعزّي نبيه ويُسلّيه من أذى وتكذيب قومه { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } أي إن ربك يا محمد لهو الغفور لذنوب المؤمنين، ذو العقاب الشديد للكافرين، ففوِّضْ أمرك إليه فإِنه ينتقم لك من أعدائك، ثم ذكر تعالى تعنُّت الكافرين و مكابرتهم للحقِّ بعد سطوعه وظهوره فقال { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً } أي لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم { لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } أي لقال المشركون: هلاَّ بُيّنت آياته بلسانٍ نفهمه وهلاَّ نزل بلغتنا { ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ }؟ استفهام إنكاري أي أقرآن أعجميٌ ونبيٌ عربي؟ قال الرازي: ذكروا أن الكفار كانوا يقولون لتعنتهم: هلاَّ نزل القرآن بلغة العجم؟! فأجيبوا بأن الأمر لو كان كما تقترحون لم تتركوا الاعتراض، ثم قال: والحقُّ عندي أن هذه السورة من أولها إلى آخرها كلام واحدٌ متعلق بعضُه ببعض، وقد حكى تعالى عنهم في أول السورة أنهم قالوا
{ قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } [فصلت: 5] فردَّ تعالى عليهم هنا بأنه لو أنزل هذا القرآن بلغة العجم لكان لهم أن يقولوا: كيف أرسلت الكلام العجمي إلى القوم العرب!! ولصحَّ لهم أن يقولوا { قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } [فصلت: 5] لأنا لا نفهمه ولا نحيط بمعناه!! أما وقد نزل بلغة العرب، وهم من أهل هذه اللغة، فكيف يمكنهم أن يقولوا ذلك؟ فظهر أن الآية على أحسن وجوه النظم { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ } أي قل لهم يا محمد: إن هذا القرآن هدى للمؤمنين من الضلالة، وشفاء لهم من الجهل والشك والريب { وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ } أي والذين لا يصدّقون بهذا القرآن، في آذانهم صممٌ عن سماعه، ولذلك تواصوا باللغو فيه { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } أي كما أن هذا القرآن رحمة للمؤمنين، هو شقاء وتعاسة على الكافرين كقوله تعالى { وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً } [الإِسراء: 82] قال في حاشية البيضاوي: إن القرآن لوضوح آياته، وسطوع براهينه، هادٍ إلى الحق، ومزيل للريب والشك، وشفاء من داء الجهل والكفر والارتياب، ومن ارتاب فيه ولم يؤمن به، فارتيابه إِنما نشأ عن توغله في اتباع الشهوات، وتقاعده عن تفقد ما يُسعده وينجيه { أُوْلَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } أي أولئك الكافرون بالقرآن، كمن يُنادى من مكان بعيد، فإِنه لا يسمع ولا يفهم ما يُنادى به، وهذا على سبيل التمثيل قال ابن عباس: يريد مثل البهيمة التي لا تفهم إلا دعاءً ونداءً { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ فَٱخْتُلِفَ فِيهِ } أي والله لقد أعطينا موسى التوراة فاختلف فيها قومه ما بين مصدِّق لها ومكذِّب، هكذا حال قومك بالنسبة للقرآن قال القرطبي: وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم أي لا يحزنك اختلاف قومك في كتابك، فقد اختلف من قبلهم في كتابهم، فآمن به قوم وكذَّب به قوم { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي ولولا أن الله حكم بتأخير الحساب والجزاء للخلائق إلى يوم القيامة لعذَّبهم وأهلكهم في الدنيا { وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } أي وإِن هؤلاء الكفار لفي شكٍ من القرآن، لتبلد عقولهم وعمى بصائرهم، موقع لهم في أشد الريبة والاضطراب { مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } أي من عمل شيئاً من الصالحات في هذه الدنيا فإِنما يعود نفع ذلك على نفسه، ومن أساء في الدنيا فإِنما يرجع وبال ذلك وضرره عليه { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } أي وليس الله منسوباً إلى الظلم حتى يعذِّب بغير إساءة، فهو تعالى لا يعاقب أحداً إلا بذنبه، ولا يعاقبه إلا بجرمه قال المفسرون: ليست صيغة "ظلاَّم" هنا للمبالغة، وإِنما هي صيغة نسبة مثل عطَّار، ونجَّار، وتمَّار، ولو كانت للمبالغة لأوهم أنه تعالى ليس كثير الظلم ولكنه يظلم أحياناً، وهذا المعنى فاسد لأنه يستحيل عليه الظلم جل وعلا { إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } أي إليه تعالى وحده علم وقت الساعة لا يعلمه غيره قال الإِمام الفخر: أي لا يعلم وقت الساعة بعينه إلا اللهُ، ومناسبتُها لما قبلها أنه تعالى لما هدَّد الكفار بقوله { مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } ومعناه أن جزاء كل أحدٍ يصل إليه في يوم القيامة، فكأن سائلاً قال: ومتى يكون ذلك اليوم؟ فبيَّن تعالى أن معرفة ذلك اليوم لا يعلمه إلا الله { وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا } أي وما تخرج ثمرةٌ من الثمرات من غلافها ووعائها { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ } أي ولا تحمل أنثى جنيناً في بطنها، ولا تلده إلا ملتبساً بعلمه تعالى، لا يعزبُ عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِي }؟ أي ويوم القيامة ينادي الله المشركين أين شركائي الذين زعمتم أنهم آلهة؟ وفيه تقريعٌ وتهكمٌ بهم { قَالُوۤاْ آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ } أي قال المشركون: أعلمناك وأخبرناك الآن بالحقيقة ما مّنا من يشهد اليوم بأنَّ لك شريكاً قال المفسرون: لما عاينوا القيامة تبرءوا من الأصنام وتبرأت الأصنم منهم، وأعلنوا إيمانهم وتوحيدهم في وقت لا ينفع فيه إِيمان { وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ } أي وغاب عنهم ما كانوا يعبدونه في الدنيا من الآلهة المزعومة { وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } أي وأيقنوا أنه لا مهرب ولا مخلص لهم من عذاب الله { لاَّ يَسْأَمُ ٱلإِنْسَانُ مِن دُعَآءِ ٱلْخَيْرِ } أي لا يملُّ الإِنسان من سؤاله ودعائه بالخير لنفسه، كالمال والصحة العز والسلطان { وَإِن مَّسَّهُ ٱلشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ } أي وإِن أصابه فقر أو مرض فهو عظيم اليأس، قانطٌ من روح الله ورحمته { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ } أي ولئن أعطيناه غنى وصحة من بعد شدة وبلاء { لَيَقُولَنَّ هَـٰذَا لِي } أي ليقولنَّ هذا بسعْيي واجتهادي قال أبو حيان: سمَّى النعمة رحمة إذ هي من آثار رحمة الله { وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَآئِمَةً } أي وما أعتقد أن القيامة ستكون { وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّيۤ إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ } أي وعلى فرض أن القيامة حاصلة، فليحسننَّ إليَّ ربي كما أحسن إليَّ في هذه الدنيا قال ابن كثير: يتمنى على الله عز وجل مع إساءته العمل وعدم اليقين { فَلَنُنَبِّئَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ } أي فواللهِ لنعلِمنَّ هؤلاء الكافرين بحقيقة أعمالهم، ولنبصرنَّهم بإِجرامهم { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } أي ولنعذبنَّهم أشد العذاب، وهو الخلود في نار جهنم { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ } أي وإِذا أنعمنا على الإِنسان أعرض عن شكر ربه، واستكبر عن الانقياد لأوامره، وشمخ بأنفه تكبراً وترفعاً { وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ } أي وإِذا أصابه المكروه فهو ذو دعاء كثير، يديم التضرع ويكثر من الابتهال، وهكذا طبيعة الإِنسان الجحود والنكران، يعرف ربه في البلاء وينساه في الرخاء قال الرازي: استعير العرض لكثرة الدعاء، كما استعير الغلظ لشدة العذاب { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ } أي قل لهم يا محمد: أخبروني يا معشر المشركين، إن كان هذا القرآن من عند الله، وكفرتم به من غير تأمل ولا نظر، كيف يكون حالكم؟ { مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } الاستفهام إِنكاري بمعنى النفي أي لا أحد أضلُّ منكم لفرط شقاقكم وعداوتكم، قال أبو السعود: وضع الموصول "من أضلُّ" موضع الضمير "منكم" شرحاً لحالهم، وتعليلاً لمزيد ضلالهم { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا } أي سنظهر لهؤلاء المشركين دلالاتنا وحججنا على أن القرآن حقٌ منزل من عند الله { فِي ٱلآفَاقِ } أي في أقطار السماواتِ والأرض من الشمس والقمر والنجوم، والأشجار والنبات وغير ذلك من العجائب العلوية والسفلية { وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ } أي وفي عجائب قدرة الله في خلقهم وتكوينهم قال القرطبي: المراد ما في أنفسهم من لطيف الصنعة، وبديع الحكمة، حتى سبيل الغائط والبول، فإِن الرجل يأكل ويشرب من مكان واحدٍ، ويتميز ذلك من مكانين، ومن بديع صنعة الله وحكمته في عينيه اللتين هما قطرة ماء، ينظر بهما من الأرض إلى السماء، مسيرة خمسمائة عام، وفي أذنيه اللتين يفرق بهما بين الأصوات المختلفة، وغير ذلك من بديع حكمة الله فيه { حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } أي حتى يظهر لهم أن هذا القرآن حق { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }؟ أي أولم يكفهم برهاناً على صدقك أن ربك لا يغيب عنه شيء في الأرض ولا في السماء؟ وأنه مطَّلع على كل شيء لا تخفى عليه خافية؟ { أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ } ألا استفتاحٌ لتنبيه السامع إلى ما يقال أي ألا فانتبهوا أيها القوم إن هؤلاء المشركين في شكٍ من الحساب والبعث والجزاء، ولهذا لا يتفكرون ولا يؤمنون { أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ } أي ألا فانتبهوا فإِنه تعالى قد أحاط علمه بكل الأشياء جملة وتفصيلاً، فهو يجازيهم على كفرهم.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1- الطباق بين { بَشِيراً.. وَنَذِيراً } وبين { طَوْعاً.. و كَرْهاً } وبين { مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ.. وَمَا خَلْفَهُمْ } وبين { ٱلْحَسَنَةُ.. و ٱلسَّيِّئَةُ } وبين { مَغْفِرَةٍ.. و عِقَابٍ } وبين { ءَاعْجَمِيٌّ.. وعَرَبِيٌّ } وبين { تَحْمِلُ.. و تَضَعُ } وبين { ٱلْخَيْرِ.. و ٱلشَّرُّ }.
2- طباق السلب { لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ.. وَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ } وكذلك { آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ }.
3- الالتفات
{ فَإِنْ أَعْرَضُواْ } [فصلت: 13] بعد قوله { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ } [فصلت: 9] وهو التفات من الخطاب إلى الغيبة، وناسب الإِعراض عن مخاطبتهم لكونهم أعرضوا عن الحق، وهو تناسب حسن.
4- الاستعارة التمثيلية
{ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } [فصلت: 11] مثَّل تأثير قدرته تعالى في السماوات والأرض بأمر السلطان لأحد رعيته أو عبيده بأمر من الأمور وامتثال الأمر سريعاً.
5- الاستعارة التصريحية
{ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ } [فصلت: 5] ليس هناك على الحقيقة شيء مما قالوه، وإِنما أخرجوا هذا الكلام مخرج الدلالة على استثقالهم ما يسمعونه من قوارع القرآن، وجوامع البيان، فكأنهم من شدة الكراهية له قد صُمَّت أسماعهم عن فهمه، وقلوبهم عن علمه.
6- الاستعارة أيضاً { أُوْلَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } شبّه حالهم في عدم قبول المواعظ، وإِعراضهم عن القرآن وما فيه بحال من يُنادى من مكان بعيد، فلا يسمع ولا يفهم ما يُنادى به، والجامع عدم الفهم في كلٍ.
8- الأمر التهديدي { ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ } خرج الأمر عن صيغته الأصلية إلى معنى الوعيد والتهديد.
9- التشبيه المرسل المجمل
{ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [فصلت: 34] ذكرت أداة التشبيه وحذف وجه الشبه فهو مرسل مجمل.
10- إن اللسان عاجز عن تصوير البلاغة في جمال الأسلوب القرآني، فتأمل الروعة البيانية في قوله تعالى { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى ٱلأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ ٱلَّذِيۤ أَحْيَاهَا لَمُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وتصور التناسق الفني في التعبير والأداء، وتأمل لفظ الخشوع والاهتزاز والانتفاخ للأرض الميتة يبعثها الله كما يبعث الموتى من القبور، إنه جو بعث وإِخراج وإِحياء، ويا له من تصوير رائع يأخذ بالألباب.