خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي ٱلْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِـع عَّلَيْهِ صَبْراً
٨٢
-الكهف

مختصر تفسير ابن كثير

في هذه الآية دليل على إطلاق القرية على المدينة، لأنه قال أولاً { { حَتَّىٰ إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ } [الكهف: 77]، وقال هٰهنا: { فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي ٱلْمَدِينَةِ }، كما قال تعالى: { { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَتْكَ } [محمد: 13] { { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31] يعني مكة والطائف، ومعنى الآية أن هذا الجدار إنما أصلحته لأنه كان لغلامين يتيمين في المدينة، وكان تحته كنز لهما. قال عكرمة: كان تحته مال مدفون لهما، وهو ظاهر السياق من الآية، وهو اختيار ابن جريررحمه الله ، وقال ابن عباس: كان تحته كنز علم، وعن الحسن البصري أنه قال: لوح من ذهب مكتوب فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، لا إلٰه إلاّ الله محمد رسول الله"، وذكر أنهما حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر منهما صلاح، وكان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء. وكان نساجاً، وهذا الذي ذكر - وإن صح - لا ينافي قول عكرمة إنه كان مالاً. لأنهم ذكروا أنه كان لوحاً من ذهب، وفيه مال جزيل أكثر، كان مودعاً فيه علم وهو حكم ومواعظ والله أعلم.
وقوله تعالى: { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً } فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة بشفاعته فيهم، ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة، لتقر عينه بهم، كما جاء في القرآن ووردت به السنّة، قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر لهما صلاحاً، وتقدم أنه كان الأب السابع فالله أعلم. وقوله: { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا } هٰهنا أسند الإرادة إلى الله تعالى، لأن بلوغهما الحلم لا يقدر عليه إلاّ الله، وقال في الغلام:
{ { فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَـاةً } [الكهف: 81] وقال في السفينة: { { فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا } [الكهف: 79] فالله أعلم. وقوله تعالى: { رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } أي هذا الذي فعلته في هذه الأحوال الثلاثة إنما هو من رحمة الله بمن ذكرنا من أصحاب السفينة، ووالدي الغلام، وولدي الرجل الصالح، وما فعلته عن أمري، لكني أمرت به ووقفت عليه، وفيه دلالة لمن قال بنبوة الخضر عليه السلام مع ما تقدم من قوله: { { فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } [الكهف: 65]، وذهب كثيرون إلى أنه لم يكن نبياً بل كان ولياً، فالله أعلم. وحكي في كونه باقياً إلى الآن ثم إلى يوم القيامة قولان، ومال النووي وابن الصلاح إلى بقائه، ورجح آخرون من المحدثين وغيرهم خلاف ذلك، واحتجوا بقوله تعالى: { { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ } [الأنبياء: 34]، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض" ، وبأنه لم ينقل أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حضر عنده، ولا قاتل معه، ولو كان حياً لكان من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لأنه عليه السلام كان مبعوثاً إلى جميع الثقلين الجن والإنس، وقد قال: "لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلاّ اتباعي" ، وأخبر قبل موته بقليل أنه لا يبقى ممن هو على وجه الأرض إلى مائة سنة من ليلته تلك عين تطرف، إلى غير ذلك من الدلائل.
وفي "صحيح البخاري"، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة فإذا هي تهتز من تحته خضراء" والمراد بالفروة هٰهنا الحشيش اليابس، وهو الهشيم من النبات، وقيل المراد بذلك وجه الأرض. وقوله: { ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِـع عَّلَيْهِ صَبْراً } أي هذا تفسير ما ضقت به ذرعاً، ولم تصبر حتى أخبرك به ابتداء، ولما أن فسره له وبينه ووضحه وأزال المشكل قال: { تَسْطِـع } وقبل ذلك كان الإشكال قوياً ثقيلاً، فقال: { { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } [الكهف: 78] فقابل الأثقل بالأثقل، والأخف بالأخف، كما قال: { { فَمَا ٱسْطَاعُوۤاْ أَن يَظْهَرُوهُ } [الكهف: 97] وهو الصعود إلى أعلاه { { وَمَا ٱسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً } [الكهف: 97] وهو أشق من ذلك، فقابل كلا بما يناسبه لفظاً ومعنى والله أعلم. فإن قيل: فما بال فتى موسى ذكر في أول القصة ثم لم يذكر بعد ذلك؟ فالجواب أن المقصود بالسياق إنما هو قصة موسى مع الخضر، وذكر ما كان بينهما، وفتى موسى معه تبع، وقد صرح في الأحاديث المتقدمة في "الصحاح" وغيرها، أنه (يوشع بن نون) وهو الذي كان يلي بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام.