خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ
٣٠
وَجَعَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ
٣١
وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ
٣٢
وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ
٣٣
-الأنبياء

مختصر تفسير ابن كثير

يقول تعالى منبهاً على قدرته التامة وسلطانه العظيم، في خلقه الأشياء وقهره لجميع المخلوقات فقال: { أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } أي الجاحدون لإلهيته العابدون معه غيره، ألم يعلموا أن الله هوالمستقل بالخلق المستبد بالتدبير، فكيف يليق أن يعبد معه غيره أو يشرك به ما سواه؟ ألم يروا أن السماوات والأرض { كَانَتَا رَتْقاً } أي كان الجميع متصلاً بعضه ببعض متلاصق متراكم بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر، ففتق هذه من هذه فجعل السماوات سبعاً والأرض سبعاً، وفصل بين السماء والأرض بالهواء، فأمطرت السماء وأنبتت الأرض، ولهذا قال: { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } أي وهم يشاهدون المخلوقات تحدث شيئاً فشيئاً عياناً. وذلك كله دليل على وجود الصانع الفاعل المختار القادر على ما يشاء:

وفي كل شيء له آيةتدل على أنه واحد

عن عكرمة قال، سئل ابن عباس: الليل كان قبل أو النهار؟ فقال: أرأيتم السماوات والأرض حين كانتا رتقاً هل كان بينهما إلاّ ظلمة؟ ذلك لتعلموا أن الليل قبل النهار. وروى ابن أبي حاتم، عن ابن عمر: أن رجلاً أتاه يسأله عن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما؟ قال: اذهب إلى ذلك الشيخ، فاسأله، ثم تعالى فأخبرني بما قال لك، قال، فذهب إلى ابن عباس فسأله، فقال ابن عباس: نعم، كانت السماوات رتقاً لا تمطر وكانت الأرض رتقاً لا تنبت، فلما خلق للأرض أهلاً فتق هذه بالمطر وفتق هذه بالنبات، فرجع الرجل إلى ابن عمر فأخبره، فقال ابن عمر، قد كنت أقول: ما يعجبني جراءة ابن عباس في تفسير القرآن فالآن علمت أنه قد أوتي في القرآن علماً، وقال عطية العوفي: كانت هذه رتقاً تمطر فأمطرت وكانت هذه رتقاً لا تنبت فأنبتت، وقال سعيد بن جبير: كانت السماء والأرض ملتزقتين فلما رفع السماء وأبرز منها الأرض كان ذلك فتقهما الذي ذكر الله في كتابه، وقال الحسن وقتادة: كانتا جميعاً ففصل بينهما بهذا الهواء، وقوله { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } أي أصل كل الأحياء. عن أبي هريرة قال، قلت: يا رسول الله إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني، فأنبئني عن كل شيء، قال: "كل شيء خلق من ماء قال، قلت: أنبئني عن أمرٍ إذا علمت به دخلت الجنة؟ قال: أفش السلام، وأطعم الطعام، وصل الأرحام، وقم بالليل والناس نيام، ثم ادخل الجنة بسلام" .
وقوله تعالى: { وَجَعَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ } أي جبالاً أرسى الأرض بها وثقلها لئلا تميد بالناس أي تضطرب وتتحرك فلا يحصل لهم قرار عليها، لأنها غامرة في الماء إلاّ مقدار الربع، فإنه باد للهواء والشمس ليشاهد أهلها السماء، وما فيها من الآيات الباهرات والحكم والدلالات، ولهذا قال { أَن تَمِيدَ بِهِمْ }: وقوله { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً } أي ثغراً في الجبال يسلكون فيها طرقاً، من قطر إلى قطر وإقليم إلى إقليم، كما هو المشاهد في الأرض يكون الجبل حائلاً بين هذه البلاد وهذه البلاد، فيجعل الله فيه فجوة ثغرة ليسلك الناس فيها من هٰهنا إلى هٰهنا، ولهذا قال: { لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ }، وقوله { وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً } أي على الأرض وهي كالقبة عليها، كما قال: { { وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } [الذاريات: 47]، وقال: { { أَفَلَمْ يَنظُرُوۤاْ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } [ق: 6]، والبناء هو نصب القبة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس" أي خمسة دعائم وهذا لا يكون إلاّ في الخيام كما تعهده العرب، { مَّحْفُوظاً } أي عالياً محروساً أن ينال، وقال مجاهد: مرفوعاً، وقوله: { وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } كقوله: { { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [يوسف: 105] أي لا يتفكرون فيما خلق الله فيها من الاتساع العظيم والارتفاع الباهر، وما زينت به من الكواكب الثوابت والسيارات في ليلها ونهارها، من هذه الشمس التي تقطع الفلك بكماله في يوم وليله، فتسير غاية لا يعلم قدرها إلاّ الله، الذي قدّرها وسخّرها وسيّرها، ثم قال منبهاً على بعض آياته { وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ } أي هذا في ظلامه وسكونه، وهذا بضيائه وأنسه، يطول هذا تارة ثم يقصر أخرى وعكسه الآخر، { وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ } هذه لها نور يخصها وحركة وسير خاص. وهذا بنور آخر وفلك آخر وسير آخر وتقدير آخر، { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } أي يدورون. قال ابن عباس: يدورون كما يدور المغزل في الفلكة، قال مجاهد: فلا يدور المغزل إلاّ بالفلكة ولا الفلكة إلاّ بالمغزل، كذلك النجوم والشمس والقمر لا يدورون إلاّ به ولا يدور إلاّ بهن، كما قال تعالى: { { فَالِقُ ٱلإِصْبَاحِ وَجَعَلَ ٱلْلَّيْلَ سَكَناً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ حُسْبَاناً ذٰلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } [الأنعام: 96].