خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي ٱلْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ ٱلْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ
٧٨
فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَٱلطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ
٧٩
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ
٨٠
وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ
٨١
وَمِنَ ٱلشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذٰلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ
٨٢
-الأنبياء

مختصر تفسير ابن كثير

قال ابن عباس: النفش الرعي، وقال قتادة: النفش لا يكون إلا بالليل، والهمل بالنهار، وعن ابن مسعود في قوله: { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي ٱلْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ ٱلْقَوْمِ } قال: كرم قد أنبتت عناقيده فأفسدته، قال: فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم. فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله، قال: وما ذاك؟ قال: تدفع الكرم إلى صاحب الغنم، فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا كان الكرم كما كان، دفعت الكرم إلى صاحبه، ودفعت الغنم إلى صحابها، فذلك قوله: { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } وروى ابن أبي حاتم، عن مسروق قال: الحرث الذي نفشت فيه الغنم إنما كان كرماً فلم تدع فيه ورقة ولا عنقوداً من عنب إلا أكلته، فأتوا داود فأعطاهم رقابها، فقال سليمان: لا، بل تؤخذ الغنم فيعطاها أهل الكرم، فيكون لهم لبنها ونفعها، ويعطى أهل الغنم الكرم فيعمروه ويصلحوه حتى يعود كالذي كان ليلة نفشت فيه الغنم، ثم يعطي أهل الغنم غنمهم وأهل الكرم كرمهم.
وقوله تعالى: { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } قال ابن أبي حاتم: إن (إياس بن معاوية) لما استقضي أتاه الحسن فبكى، فقال: ما يبكيك؟ قال: يا أبا سعيد بلغني أن القضاة: رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار، ورجل مال به الهوى فهو في النار، ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة، فقال الحسن البصري: إن فيما قص الله من نبأ داود وسليمان عليهما السلام والأنبياء حكماً يرد قول هؤلاء الناس عن قولهم، قال الله تعالى: { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي ٱلْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ ٱلْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } فأثنى الله على سليمان ولم يذم داود، ثم قال الحسن: إن الله اتخذ على الحكام ثلاثاً: لا يشتروا به ثمناً قليلاً، ولا يتبعوا فيه الهوى ولا يخشوا فيه أحداً ثم تلا:
{ { يٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي ٱلأَرْضِ فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } [ص: 26]، وقال: { { فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ } [المائدة: 44]، وقال: { { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } [المائدة: 44]. وفي "صحيح البخاري" عن عمرو بن العاص أنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر" ، وفي "السنن": القضاة ثلاثة قاض في الجنة وقاضيان في النار: رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار، وقريب من هذه القصة المذكورة في القرآن ما رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما امرأتان معهما ابنان لهما إذ جاء الذئب، فأخذ أحد الابنين، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا، فدعاهما سليمان، فقال: هاتوا السكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: يرحمك الله هو ابنها لا تشقه، فقضى به للصغرى" .
وقوله تعالى: { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَٱلطَّيْرَ } الآية، وذلك لطيب صوته بتلاوة الزبور، وكان إذا ترنم به تقف الطير في الهواء فتجاوبه، وترد عليه الجبال تأويباً، ولهذا لما مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي موسى الأشعري وهو يتلو القرآن من الليل، وكان له صوت طيب جداً، فوقف واستمع لقراءته، وقال: "لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود" ، قال: يا رسول الله لو علمت أنك تستمع لحَبَّرْتُه لك تحبيراً، وقوله: { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ } يعني صنعة الدروع، قال قتادة: إنما كانت الدروع قبله صفائح وهو أول من سردها حلقاً، كما قال تعالى: { { وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ * أَنِ ٱعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ } [سبأ: 10-11] أي لا توسع الحلقة فتفلق المسمار ولا تغلظ المسمار فتقد الحلقة، ولهذا قال: { لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ } يعني في القتال، { فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ } أي نعم الله عليكم لما ألهم به عبده داود فعلمه ذلك من أجلكم، وقوله: { وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ عَاصِفَةً } أي وسخرنا لسليمان الريح العاصفة { تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } يعني أرض الشام { وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ }، وذلك أنه كان له بساط من خشب يوضع عليه كل ما يحتاج إليه من أمور المملكة والخيل والجمال والخيام والجند، ثم يأمر الريح أن تحمله فتدخل تحته ثم تحمل وترفعه وتسير به، وتظله الطير تقيه الحر إلى حيث يشاء من الأرض، فينزل وتوضع آلاته وحشمه، قال الله تعالى: { { فَسَخَّرْنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ } [ص: 36]، عن سعيد بن جبير قال: كان يوضع لسليمان ستمائة ألف كرسي فيجلس مما يليه مؤمنو الإنس، ثم يجلس من ورائهم مؤمنو الجن، ثم يأمر الطير فتظلهم، ثم يأمر الريح فتحملهم صلى الله عليه وسلم. وقوله: { وَمِنَ ٱلشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ } أي في الماء يستخرجون اللآلئ، والجواهر وغير ذلك، { وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذٰلِكَ } أي غير ذلك كما قال تعالى: { { وَٱلشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ } [ص: 37-38]، وقوله: { وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ } أي يحرسه الله أن يناله أحد من الشياطين بسوء، بل كل في قبضته وتحت فهره لا يتجاسر أحد منهم على الدنو إليه والقرب منه، بل هو يحكم فيهم إن شاء أطلق وإن شاء حبس منهم من يشاء، ولهذا قال: { { وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ } [ص: 38].