خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَٱعْبُدُونِ
٥٦
كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ
٥٧
وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ غُرَفَاً تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ
٥٨
ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
٥٩
وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ٱللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٦٠
-العنكبوت

مختصر تفسير ابن كثير

هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين، بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين، إلى أرض الله الواسعة، حيث يمكن إقامة الدين، بأن يوحدوا الله ويعبدوه كما أمرهم، ولهذا قال تعالى: { يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَٱعْبُدُونِ }. عن الزبير بن العوام قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، فحيثما أصبت خيراً فأقم" ، ولهذا ما ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم بها، خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم هناك، فوجدوا خير المنزلين هناك (أصحمة النجاشي) ملك الحبشةرحمه الله تعالى، فآواهم وأيدهم، ثم بعد ذلك هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الباقون إلى المدينة المطهرة، ثم قال تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } أي أينما كنتم يدرككم الموت، فكونوا في طاعة الله وحيث أمركم الله فهو خير لكم، فإن الموت لا بد منه ولا محيد عنه، ثم إلى الله المرجع والمآب، فمن كان مطيعاً له جازاه أفضل الجزاء ووافاه أتم الثواب، ولهذا قال تعالى: { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ غُرَفَاً تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أي لنسكننهم منازل عالية في الجنة، تجري من تحتها الأنهار على اختلاف أصنافها، من ماء وخمر وعسل ولبن، يصرفونها ويجرونها حيث شاءوا، { خَالِدِينَ فِيهَا } أي ماكثين فيها أبداً لا يبغون عنها حولاً، { نِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ } نعمت هذه الغرف أجراً على أعمال المؤمنين { ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ } أي على دينهم وهاجروا إلى الله، ونابذوا الأعداء، وفارقوا الأهل والأقرباء، ابتغاء وجه الله ورجاء ما عنده.
وفي الحديث:
"إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام، وأطاب الكلام، وتابع الصلاة والصيام، وقام بالليل والناس نيام" { وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } في أحوالهم كلها في دينهم ودنياهم. ثم أخبرهم تعالى أن الرزق لا يختص ببقعة، بل رزقه تعالى عام لخلقه حيث كانوا وأين كانوا، بل كانت أرزاق المهاجرين حيث هاجروا أكثر وأوسع وأطيب، فإنهم بعد قليل صاروا حكام البلاد في سائر الأقطار والأمصار، ولهذا قال تعالى: { وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا } أي لا تطيق جمعه وتحصيله ولا تدخر شيئاً لغد، { ٱللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ } أي الله يقيّض لها رزقها على ضعفها وييسره عليها، فيبعث إلى كل مخلوق من الرزق ما يصلحه حتى الذر في قرار الأرض، والطير في الهواء، والحيتان في الماء، قال تعالى: { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [هود: 6]، وروى ابن أبي حاتم "عن ابن عمر قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل بعض حيطان المدينة، فجعل يلتقط من التمر ويأكل، فقال لي: يا ابن عمر مالك لا تأكل؟ قال، قلت: لا أشتهيه يا رسول الله، قال: لكني أشتهيه وهذا صبح رابعةٍ منذ لم أذق طعاماً، ولم أجده، ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر، فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يخبئون رزق سنتهم بضعف اليقين؟ قال فوالله ما برحنا ولا رمنا حتى نزلت: { وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ٱللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ }، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عزَّ وجلَّ لم يأمرني بكنز الدنيا، ولا باتباع الشهوات، فمن كنز دنياه يريد بها حياة باقية، فإن الحياة بيد الله، ألا وإني لا أكنز ديناراً ولا درهماً ولا أخبأ رزقاً لغد" ، وعن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سافروا تربحوا، وصوموا تصحوا واغزوا تغنموا" . وقوله: { وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } أي السميع لأقوال عباده { ٱلْعَلِيمُ } بحركاتهم وسكناتهم.