خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ ٱلنُّشُورُ
٩
مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَٱلَّذِينَ يَمْكُرُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ
١٠
وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ
١١
-فاطر

مختصر تفسير ابن كثير

كثيراً ما يستدل تعالى على المعاد بإحيائه الأرض بعد موتها، ينبه عباده أن يعتبروا بهذا على ذلك، فإن الأرض تكون ميتة هامدة لا نبات فيها، فإذا أرسل إليها السحاب تحمل الماء وأنزله عليها، { ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [الحج: 5]، كذلك الأجساد إذا أراد الله تعالى بعثها ونشورها أنزل من تحت العرش مطراً يعم الأرض جميعاً، ونبتت الأجساد في قبورها كما تنبت الحبة في الأرض، ولهذا جاء في الصحيح: "كل ابن آدم يبلى إلا عَجْبَ الذنب، منه خلق ومنه يركب" ، ولهذا قال تعالى: { كَذَلِكَ ٱلنُّشُورُ }. وتقدم في الحج حديث أبي رزين، قلت: "يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ قال صلى الله عليه وسلم: يا أبا رزين أما مررت بوادي قومك ممحلاً ثم مررت به يهتز خضراً قلت: بلى، قال صلى الله عليه وسلم: فكذلك يحيي الله الموتى" ، وقوله تعالى: { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً } أي من كان يحب أن يكون عزيزاً في الدنيا والآخرة فليلزم طاعة الله تعالى فإنه يحصل له مقصوده، لأن الله تعالى مالك الدنيا والآخرة، وله العزة جميعاً، كما قال تعالى: { أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلْعِزَّةَ فَإِنَّ ٱلعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً } [النساء: 139]، وقال عزَّ وجلَّ: { وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } [المنافقون: 8] قال مجاهد: { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ } بعبادة الأوثان { فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً }، وقال قتادة: { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً } أي فليتعزز بطاعة الله عزَّ وجلَّ، وقوله تبارك وتعالى: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ } يعني الذكر والتلاوة والدعاء؛ روى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إذا حدثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله تعالى، إن العبد المسلم إذا قال: سبحان الله وبحمده والحمد لله ولا إلٰه إلا الله والله أكبر تبارك الله، أخذهن ملك فجعلهن تحت جناحه، ثم صعد بهن إلى السماء فلا يمر بهن على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن، حتى يجيء بهن وجه الله عزَّ وجلَّ، ثم قرأ عبد الله رضي الله عنه: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ }. وقال كعب الأحبار: إن لسبحان الله، والحمد لله، ولا إلٰه إلا الله، والله أكبر، لدوياً حول العرش كدوي النحل، يذكرن لصاحبهن، والعمل الصالح في الخزائن.
وقوله تعالى: { وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } قال ابن عباس: الكلم الطيب ذكر الله تعالى يصعد به إلى الله عزَّ وجلَّ، والعمل الصالح أداء الفريضة، فمن ذكر الله تعالى في أداء فرائضه حمل عمله ذكر الله تعالى يصعد به إلى الله عزَّ وجلَّ، ومن ذكر الله تعالى ولم يؤد فرائضه رد كلامه على عمله فكان أولى به، وكذا قال مجاهد: العمل الصالح يرفع الكلام الطيب، وقال إياس بن معاوية: لولا العمل الصالح لم يرفع الكلام، وقال الحسن وقتادة: لا يقبل قول إلا بعمل، وقوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ يَمْكُرُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ } قال مجاهد: هم المراؤون بأعمالهم يعني يمكرون بالناس، يوهمون أنهم في طاعة الله تعالى وهم بغضاء إلى الله عزَّ وجلَّ يراؤون بأعمالهم
{ وَلاَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً } [النساء: 142]، وقال ابن أسلم: هم المشركون، والصحيح أنها عامة، والمشركون داخلون بطريق الأولى، ولهذا قال تعالى: { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ } أي يفسد ويبطل، ويظهر زيفهم عن قريب لأولي البصائر والنُّهَى، فإنه ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه، وما أسر أحد سريرة إلا كساه الله تعالى رداءها إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، فالمرائي لا يروج أمره ويستمر إلا على غبي، أما المؤمنون المتفرسون فلا يروج ذلك عليهم بل ينكشف لهم عن قريب، وعالم الغيب لا تخفى عليه خافية، وقوله تبارك وتعالى: { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } أي ابتدأ خلق أبيكم آدم من تراب، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، { ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً } أي ذكراً وأنثى لطفاً منه ورحمة أن جعل لكم أزواجاً من جنسكم لتسكنوا إليها، وقوله عزَّ وجلَّ: { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ } أي هو عالم بذلك لا يخفى عليه من ذلك شيء بل { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ ٱلأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [الأنعام: 59]، وقد تقدم الكلام على قوله تعالى: { ٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ ٱلأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } [الرعد: 8] وقوله عزَّ وجلَّ: { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ } أي ما يعطى بعض النطف من العمر الطويل يعلمه وهو عنده في الكتاب الأول { وَماَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } الضمير عائد على الجنس، لأن الطويل العمر في الكتاب وفي علم الله تعالى لا ينقص من عمره، وإنما عاد الضمير على الجنس. قال ابن جرير: وهذا كقولهم عندي ثوب ونصفه، أي ونصف ثوب آخر.
وروي عن ابن عباس في قوله تعالى: { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } الآية، يقول: ليس أحد قضيت له بطول العمر والحياة إلا وهو بالغ ما قدرت له من العمر، وقد قضيت ذلك له، فإنما ينتهي إلى الكتاب الذي قدرت لا يزاد عليه، وليس أحد قدرت له أنه قصير العمر، والحياة ببالغ العمر، ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي كتبت له، فذلك قوله تعالى: { وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } يقول: كل ذلك في كتاب عنده، وقال زيد بن أسلم { وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ } قال: ما لفظت الأرحام من الأولاد من غير تمام وقال عبد الرحٰمن في تفسيرها، ألا ترى الناس يعيش الإنسان مائة سنة وآخر يموت حين يولد فهذا هذا، وقال قتادة: والذي ينقص من عمره فالذي يموت قبل ستين سنة. وقال مجاهد { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ } أي في بطن أمه يكتب له ذلك لم يخلق الخلق على عمر واحد، بل لهذا عمر، ولهذا عمر، فكل ذلك مكتوب لصاحبه بالغ ما بلغ، وقال بعضهم: بل معناه { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ } أي ما يكتب من الأجل { وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } وهو ذهابه قليلاً قليلاً الجميع معلوم عند الله تعالى سنة بعد سنة وشهراً بعد شهر، وجمعة بعد جمعة، وساعة بعد ساعة الجميع مكتوب عند الله تعالى في كتابه، نقله ابن جرير عن أبي مالك، واختار ابن جرير الأول، ويؤيده عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه" ، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ذكرنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله تعالى لا يؤخر نفساً إذا جاء أجلها، وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحة يرزقها العبد فيدعون له من بعده فيلحقه دعاؤهم في قبره فذلك زيادة العمر" ، وقوله عزَّ وجلَّ: { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } أي سهل عليه يسير لديه، فإن علمه شامل للجميع لا يخفى عليه شيء منها.