خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ
١٢
-الحجرات

مختصر تفسير ابن كثير

يقول تعالى ناهياً عباده المؤمنين عن كثير من الظن، وهو التهمة والتخون للأهل والناس في غير محله، لأن بعض ذلك يكون إثماً محضاً، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيراً وأنت تجد لها في الخير محملاً، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: "ما أطيبك وأطيب ريحك! ما أعظمك وأعظم حرمتك! والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله تعالى حرمة منك، ماله ودمه وأن يظن به إلا خيراً" . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً" .
وعن أنَس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخواناً ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام" . وروى الطبراني، عن حارثة بن النعمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لازمات لأمتي: الطيرة والحسد وسوء الظن، فقال رجل: وما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه؟ قال صلى الله عليه وسلم: إذا حسدت فاستغفر الله، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيرت فامض" . وروى أبو داود، عن زيد رضي الله عنه قال: أتي ابن مسعود رضي الله عنه برجل فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمراً، فقال عبد الله رضي الله عنه: "إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به".
وروى الإمام أحمد، عن أبي الهيثم عن دجين كاتب عقبة قال:
"قلت لعقبة إن لنا جيراناً يشربون الخمر، وأنا داع لهم الشرط فيأخذونهم قال: لا تفعل، ولكن عظهم وتهددهم، قال: ففعل فلم ينتهوا، قال: فجاءه دجين، فقال: إني قد نهيتهم وإني داع لهم الشرط، فتأخذهم، فقال له عقبة: ويحك لا تفعل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موءودة من قبرها" . { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } أي على بعضكم بعضاً، والتجسس غالباً يطلق في الشر ومنه الجاسوس، وأما التحسس فيكون غالباً في الخير، كما قال عزَّ وجلَّ إخباراً عن يعقوب: { يٰبَنِيَّ ٱذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ } [يوسف: 87]. وقال الأوزاعي: التجسس البحث عن الشيء، والتحسس الاستماع إلى حديث القوم، أو يتسمع على أبوابهم، والتدابر: الصرم.
وقوله تعالى: { وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً } فيه نهي عن الغيبة، وقد فسّرها الشارع كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود، عن أبي هريرة، قال:
"قيل: يا رسول الله ما الغيبة؟ قال صلى الله عليه وسلم: ذكرك أخاك بما يكره قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال صلى الله عليه وسلم: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه" . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا، تعني قصيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته. قالت: وحكيت له إنساناً، فقال صلى الله عليه وسلم: ما أحب أني حكيت إنساناً، وإن لي كذا وكذا" . والغيبة محرمة بالإجماع، ولا يستثنى من ذلك إلا ما رجحت مصلحته، كما في الجرح والتعديل والنصيحة، "كقوله صلى الله عليه وسلم، لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر: ائذنوا له بئس أخو العشيرة" ، وكقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس رضي الله عنها وقد خطبها معاوية وأبو الجهم: "أما معاوية فصعلوك وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه" ، وكذا ما جرى مجرى ذلك، ثم بقيتها على التحريم الشديد، وقد ورد فيها الزجر الأكيد ولهذا شبهها تبارك وتعالى بأكل اللحم من الإنسان الميت كما قال عزّ وجلّ: { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ } أي كما تكرهون هذا طبعاً فاكرهوا ذاك شرعاً، فإن عقوبته أشد من هذا، وهذا من التنفير عنها والتحذير منها، وثبت في الصحاح والحسان والمسانيد من غير وجه أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبة حجة الوداع: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا" .
وروى أبو داود، عن أبي هريرة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل المسلم على المسلم حرام، ماله، وعرضه، ودمة، حسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم" . وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسمع العواتق في بيوتها، أو قال: في خدورها، فقال: يا معشر من آمن بلسانه لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته" .
طريق أُخرى: عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تغتابوا المسليمن، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله" ، قال، ونظر ابن عمر يوماً إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك، وللمؤمن أعظم حرمة عند الله منك.
عن أنَس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم" ، وروى ابن أبي حاتم، عن أبي سعيد الخدري قال: "قلنا: يا رسول الله حدّثنا ما رأيت ليلة أسري بك؟ قال: ثم انطلق بي إلى خلق من خلق الله كثير، رجال ونساء، موكل بهم رجال يعمدون إلى عرض جنب أحدهم، فيجذون منه الجذة مثل النعل، ثم يضعونها في فيِّ أحدهم، فيقال له: كل كما أكلت - وهو يجد من أكله الموت يا محمد لو يجد الموت وهو يكره عليه - فقلت: يا جبرائيل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الهمازون اللمازون أصحاب النميمة، فيقال: { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ } وهو يكره على أكل لحمه" .
وروى الحافظ البيهقي، "عن عبيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امرأتين صامتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن هٰهنا امرأتين صامتا، وإنهما كادتا تموتان من العطش. أراه قال بالهاجرة، فأعرض عنه أو سكت عنه، فقال: يا نبي الله إنهما والله قد ماتتا، أو كادتا تموتان، فقال: ادعمها فجاءتا، قال: فجيء بقدح أو عس، فقال لإحداهما: قيئي، فقاءت من قيح ودم وصديد، حتى قاءت نصف القدح، ثم قال للأُخْرى: قيئي، فقاءت قيحاً ودماً وصديداً ولحماً ودماً عبيطاً وغيره، حتى ملأت القدح، ثم قال: إن هاتين صامتا عما أحل الله تعالى لهما، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، جلست إحداهما إلى الأُخرى فجعلتا تأكلان لحوم الناس" . وروى الحافظ أبو يعلى، عن ابن عمر "أن ماعزاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد زنيت، فأعرض عنه، حتى قالها أربعاً، فلما كان في الخامسة قال: زنيت؟ قال: نعم، قال: وتدري ما الزنا؟ قال: نعم، أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً، قال: ما تريد إلى هذا القول؟ قال: أُريد أن تطهّرني، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدخلت ذلك منك في ذلك منها، كما يغيب الميل في المكحلة والرشا في البئر؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: فأمر برجمه فرجم. فسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين يقول أحدهما لصاحبه: ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه، فلم تدعه نفسه حتى رجم رجْم الكلب؟ ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم حتى مرَّ بجيفة حمار، فقال: أين فلان وفلان؟ إنزلا، فكلا من جيفة هذا الحمار، قال: غفر الله لك يا رسول الله، وهل يؤكل هذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: فما نلتما من أخيكما آنفاً أشد أكلاً منه، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها" .
وروى الإمام أحمد، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فارتفعت ريح جيفة منتنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون الناس؟" وقوله عزّ وجلّ: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } أي فيما أمركم به ونهاكم عنه فراقبوه في ذلك واخشوا منه، { إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } أي تواب على من تاب إليه { رَّحِيمٌ } لمن رجع إليه واعتمد عليه، قال الجمهور من العلماء: طريق المغتاب للناس في توبته أن يقلع عن ذلك، ويعزم على أن لا يعود، وهل يشترط الندم على ما فات؟ فيه نزاع، وأن يتحلل من الذي اغتابه، وقال آخرون: لا يشترط أن يتحلله، فإنه إذا أعلمه بذلك ربما تأذى أشد مما إذا لم يعلم بما كان منه، فطريقه إذاً إن يثني عليه بما فيه في المجالس التي كان يذمه فيها، وأن يرد عنه الغيبة بحسبه وطاقته، لتكون تلك بتلك؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من حمى مؤمناً من منافق يغتابه بعث الله تعالى إليه ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن رمى مؤمناً بشيء يريد سبه حبسه الله تعالى على جسر جهنم حتى يخرج مما قال" . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من امرىء يخذل امرءاً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله تعالى في مواطن يحب فيها نصرته، وما من امرىء ينصر امرأ مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله عزّ وجلّ في مواطن يحب فيها نصرته" .