خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٣
-المائدة

مختصر تفسير ابن كثير

يخبر تعالى عباده خبراً متضمناً النهي عن تعاطي هذه المحرمات من الميتة، وهي ما مات من الحيوانات حتف أنفه من غير ذكاة ولا اصطياد، وما ذاك إلا لما فيها من المضرة، لما فيها من الدم المحتقن، فهي ضارة للدين وللبدن، فلهذا حرمها الله عزَّ وجلَّ، ويستثنى من الميتة السمك فإنه حلال سواء مات بتذكية أو غيرها، لما رواه مالك والترمذي والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ماء البحر؟ فقال: "هو الطهور ماؤه، والحل ميتته" . وقوله: { وَٱلْدَّمُ } يعني به المسفوح كقوله: { { أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً } [الأنعام: 145]، قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه سئل عن الطحال؟ فقال: كلوه. فقالوا: إنه دم، فقال: إنما حرم عليكم الدم المسفوح. وعن عائشة قالت: إنما نهي عن الدم السافح، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحل لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال" . وقال ابن أبي حاتم عن أبي أمامة وهو (صدي بن عجلان) قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله وأعرض عليهم شرائع الإسلام، فأتيتهم؛ فبينما نحن كذلك إذ جاءوا بقصعة من دم، فاجتمعوا عليها يأكلونها، فقالوا: هلمَّ يا صدي، فكل، قال قلت: ويحكم إنما أتيتكم من عند من يحرم هذا عليكم، فأقبلوا عليه، قالوا: وما ذاك؟ فتلوت عليهم هذه الآية: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ } الآية، وما أحسن ما أنشد الأعشى في قصيدته التي ذكرها ابن إسحاق:

وإياك والميتات لا تقربَنَّها ولا تأخذن عظماً حديداً فتفصدا

أي لا تفعل فعل الجاهلية، وذلك أن أحدهم كان إذا جاع يأخذ شيئاً محدداً من عظم ونحوه، فيفصد به بعيره أو حيواناً من أي صنف كان، فيجمع ما يخرج منه من الدم فيشربه، ولهذا حرم الله الدم على هذه الأمة.
قوله تعالى: { وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ } يعني إنسيه ووحشيه، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم، ولا يحتاج إلى تحذلق "الظاهرية" في جمودهم هٰهنا، وتعسفهم في الاحتجاج بقوله:
{ { فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً } [الأنعام: 145] يعنون قوله تعالى: { { إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } [الأنعام: 145] أعادوا الضمير فيما فهموه على الخنزير حتى يعم جميع أجزائه، وهذا بعيد من حيث اللغة، فإنه لا يعود الضمير إلا إلى المضاف دون المضاف إليه، والأظهر أن اللحم يعم جميع الأجزاء، كما هو المفهوم من لغة العرب ومن العرف المطرد. وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الخصيب الأسلمي رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم الخنزير ودمه" ، فإذا كان هذا التنفير لمجرد اللمس، فكيف يكون التهديد والوعيد الأكيد على أكله والتغذي به!؟ وفيه دلالة على شمول اللحم لجميع الأجزاء من الشحم وغيره. وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا، هو حرام" . وفي صحيح البخاري من حديث أبي سفيان أنه قال لهرقل ملك الروم: نهانا عن الميتة والدم. وقوله: { وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ } أي ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله، فهو حرام، لأن الله تعالى أوجب أن تذبح مخلوقاته على اسمه العظيم، فمتى عدل بها عن ذلك، وذكر عليها اسم غيره من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك من سائر المخلوقات، فإنها حرام بالإجماع.
وقوله تعالى: { وَٱلْمُنْخَنِقَةُ } وهي التي تموت بالخنق، إما قصداً، وإما اتفاقاً، بأن تتخبل في وثاقتها فتموت به فهي حرام؛ وأما { ٱلْمَوْقُوذَةُ } فهي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدد حتى تموت، كما قال ابن عباس وغير واحد: هي التي تضرب بالخشبة حتى يوقذها فتموت، قال قتادة: كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصي حتى إذا ماتت أكلوها. وفي الصحيح أن عدي بن حاتم قال، قلت: يا رسول الله إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب، قال:
"إذا رميت بالمعراض فخرق، فكله، وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله" ، ففرق بين ما أصابه بالسهم أو بالمزراق ونحوه بحده فأحله، وما أصاب بعرضه فجعله وقيذاً لم يحله، وهذا مجمع عليه عند الفقهاء واختلفوا فيما إذا صدم الجارحة الصيد فقتله بثقله ولم يجرحه على قولين، هما قولان للشافعيرحمه الله : (أحدهما) لا يحل كما في السهم والجامع أن كلا منهما ميت بغير جرح فهو وقيذ، (والثاني): أنه يحل لأنه حكم بإباحة ما صاده الكلب ولم يستفصل، فدل على إباحة ما ذكرناه لأنه قد دخل في العموم. (فإن قيل): فلم لا فصل في حكم الكلب، فقال ما ذكرتم: إن جرحه فهو حلال وإن لم يجرحه فهو حرام؟ (فالجواب): أن ذلك نادر لأن من شأن الكلب أن يقتل بظفره أو نابه أو بهما معاً، وأما اصطدامه هو والصيد فنادر وكذا قتله إياه بثقله، فلم يحتج إلى الاحتراز من ذلك لندوره، أو لظهور حكمه عند من علم تحريم الميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة. وأما السهم والمعراض فتارة يخطىء لسوء رمي راميه أو للهو أو لنحو ذلك، بل خطؤه أكثر من إصابته، فلهذا ذكر كلا من حكميه مفصلاً، والله أعلم. ولهذا لما كان الكلب من شأنه أنه قد يأكل من الصيد ذكر حكم ما إذا أكل من الصيد فقال: "إن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه"، وهذا صحيح ثابت في الصحيحين، وهو أيضاً مخصوص من عموم آية التحليل عند كثيرين، فقالوا: لا يحل ما أكل منه الكلب. حكي ذلك عن أبي هريرة وابن عباس، وإليه ذهب أبو حنيفة وصاحباه وأحمد بن حنبل والشافعي في المشهور عنه، وروى ابن جرير في تفسيره عن ابن عمر وابن عباس: أن الصيد يؤكل وإن أكل منه الكلب، حتى قال سعيد وسلمان وأبو هريرة وغيرهم: يؤكل ولو لم يبق منه إلا بضعة، وإلى ذلك ذهب مالك والشافعي في قوله القديم، وأومأ في الجديد إلى قولين، وقد روى أبو داود بإسناد جيد قوي عن أبي ثعلبة الخشني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في صيد الكلب: "إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه، وكل ما ردت عليك يدك" .
فأما الجوارح من الطيور، فنص الشافعي على أنها كالكلب، فيحرم ما أكلت منه عند الجمهور، ولا يحرم عند الآخرين، واختار المزني من أصحابنا أنه لا يحرم أكل ما أكلت منه الطيور والجوارح، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد، قالوا: لأنه لا يمكن تعليمها كما يعلم الكلب بالضرب ونحوه، وأيضاً فإنها لا تعلم إلا بأكلها من الصيد، فيعفى عن ذلك، وأيضاً فالنص إنما ورد في الكلب لا في الطير، وأما { ٱلْمُتَرَدِّيَةُ } فهي التي تقع من شاهق أو موضع عال فتموت بذلك فلا تحل، قال ابن عباس: المتردية التي تسقط من جبل، وقال قتادة: هي التي تتردى في بئر، وقال السدي: هي التي تقع من جبل أو تتردى في بئر، وأما { ٱلنَّطِيحَةُ } فهي التي ماتت بسبب نطح غيرها لها فهي حرام، وإن جرحها القرن وخرج منها الدم ولو من مذبحها، والنطيحة فعيلة بمعنى مفعولة أي منطوحة، وأكثر ما ترد هذه البنية في كلام العرب بدون تاء التأنيث، فيقولون: عين كحيل، وكف خضيب، ولا يقولون: كف خضيبة، ولا عين كحيلة، وأما هذه فقال بعض النحاة إنما استعمل فيها تاء التأنيث لأنها أجريت مجرى الأسماء، كما في قولهم طريقة طويلة، وقال بعضهم: إنما أتى بتاء التأنيث فيها لتدل على التأنيث من أول وهلة، بخلاف عين كحيل وكف خضيب، لأن التأنيث مستفاد من أول الكلام. وقوله تعالى: { وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ } أي ما عدا عليها أسد أو فهد أو نمر أو ذئب أو كلب فأكل بعضها فماتت بذلك فهي حرام، وإن كان قد سال منها الدم، ولو من مذبحها، فلا تحل بالإجماع، وقد كان أهل الجاهلية يأكلون ما أفضل السبع من الشاة أو البعير أو البقرة أو نحو ذلك، فحرم الله ذلك على المؤمنين. وقوله: { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } عائد على ما يمكن عوده عليه مما انعقد سبب موته، فأمكن تداركه بذكاة وفيه حياة مستقرة، وذلك إنما يعود على قوله: { وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ }.
وقال ابن عباس في قوله: { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } يقول: إلا ما ذبحتم من هؤلاء وفيه روح فكلوه فهو ذكي، وقال بن أبي حاتم عن علي في الآية قال: إن مصعت بذنبها أو ركضت برجلها أو طرفت بعينها فكل، وقال ابن جرير، عن علي قال: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة وهي تحرك يداً أو رجلاً فكلها، وهكذا روي عن طاووس والحسن: أن المُذكاة متى تحركت بحركة تدل على بقاء الحياة فيها بعد الذبح فهي حلال؛ وهذا مذهب جمهور الفقهاء، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل. وقال ابن وهب: سئل مالك عن الشاة التي يخرق جوفها السبع حتى تخرج أمعاؤها؟ فقال مالك: لا أرى أن تذكى، أي شيء يذكى منها. وقال أشهب: سئل مالك عن الضبع يعدو على الكبش فيدق ظهره أترى أن يذكى قبل أن يموت فيؤكل؟ فقال: إن كان قد بلغ السحر فلا أرى أن يؤكل، وإن كان أصاب أطرافه فلا أرى بذلك بأساً، قيل له: وثب عليه فدق ظهره، فقال: لا يعجبني، هذا لا يعيش منه، قيل له: فالذئب يعدو على الشاة فيثقب بطنها ولا يثقب الأمعاء، فقال: إذا شق بطنها فلا أرى أن تؤكل، هذا مذهب مالكرحمه الله ؛ وظاهر الآية عام فيما استثناه مالكرحمه الله من الصور التي بلغ الحيوان فيها إلى حالة لا يعيش بعدها، فيحتاج إلى دليل مخصص للآية والله أعلم. وفي الصحيحين عن رافع بن خديج أنه قال،
"قلت: يا رسول الله إنا لاقو العدو غداً وليس معنا مُدَى أفنذبح بالقصب؟ فقال: ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه ليس السن والظفر. وسأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة" ، وفي الحديث الذي رواه الدارقطني مرفوعاً، وروي عن عمر موقوفاً وهو أصح: "ألا إن الذكاة في الحلق واللبة ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق" . وفي الحديث الذي رواه أحمد وأهل السنن عن أبي العشراء الدارمي عن أبيه قال، "قلت: يا رسول الله أما تكون الذكاة إلاّ من اللبة والحلق؟ فقال: لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك" وهو حديث صحيح، ولكنه محمول على ما لا يقدر على ذبحه في الحلق واللبة.
وقوله تعالى: { وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ } كانت النصب حجارة حول الكعبة، قال ابن جريج: وهي ثلثمائة وستون نصباً، كانت العرب في جاهليتها يذبحون عندها وينضحون ما أقبل منها إلى البيت بدماء تلك الذبائح، ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب، فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع، وحرم عليهم أكل هذه الذبائح التي فعلت عند النصب، حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله. فالذبح عند النصب من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، وينبغي أن يحمل هذا على هذا، لأنه قد تقدم تحريم ما أُهِلَّ به لغير الله. وقوله تعالى: { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ } أي حرم عليكم أيها المؤمنون الاستقسام بالأزلام، واحدها زلم، وقد تفتح الزاي فيقال: زلم، وقد كانت العرب في جاهليتها يتعاطون ذلك، وهي عبارة عن قداح ثلاثة على أحدها مكتوب إفعل، وعلى الآخر لا تفعل والثالث غفل ليس عليه شيء، ومن الناس من قال: مكتوب على الواحد أمرني ربي، وعلى الآخر نهاني ربي، والثالث غفل ليس عليه شيء، فإذا أجالها فطلع سهم الأمر فعله، أو النهي تركه، وإن طلع الفارغ أعاد، والاستقسام مأخوذ من طلب القسم من هذه الأزلام، هكذا قرر ابن جرير، وعن ابن عباس { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ } قال: والأزلام قداح كانوا يستقسمون بها في الأمور، وذكر محمد بن إسحاق وغيره: أن أعظم أصنام قريش صنم كان يقال له هبل منصوب على بئر داخل الكعبة فيها توضع الهدايا وأموال الكعبة فيه، وكان عنده سبعة أزلام مكتوب فيها ما يتحاكمون فيه مما أشكل عليهم، فلما خرج لهم منها رجعوا إليه ولم يعدلوا عنه، وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة وجد إبراهيم وإسماعيل مصورين فيها، وفي أيديهما الأزلام فقال:
"قاتلهم الله، لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبداً" . وفي الصحيحين أن (سراقة بن مالك بن جعشم) لما خرج في طلب النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وهما ذاهبان إلى المدينة مهاجرين قال: فاستقسمت بالأزلام هل أضرهم أم لا فخرج الذي أكره: لا تضرهم، قال: فعصيت الأزلام، واتبعتهم، ثم إنه استقسم بها ثانية، وثالثة، كل ذلك يخرج الذي يكره: لا تضرهم، وكان كذلك، وكان سراقة لم يسلم إذ ذاك ثم أسلم بعد ذلك.
{ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ } أي تعاطيه فسق وغي وضلالة وجهالة وشرك؛ وقد أمر الله المؤمنين إذا ترددوا في أمورهم أن يتسخيروه بأن يعبدوه ثم يسألوه الخيرة في الأمر الذي يريدونه، كما روى الإمام أحمد والبخاري عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن، ويقول:
"إذا هَمَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك. وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر - ويسميه باسمه - خير لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: عاجل أمري وآجله - فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، اللهم! وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفني عنه، واصرفه عني، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رَضِّني به" .
وقوله تعالى: { ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } قال ابن عباس: يعني يئسوا أن يراجعوا دينهم، وكذا روي عن عطاء ومقاتل وعلى هذا المعنى يرد الحديث الثابت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن بالتحريش بينهم" ، ويحتمل أن يكون المراد أنهم يئسوا من مشابهة المسلمين لما تميز به المسلمون من هذه الصفات المخالفة للشرك وأهله، ولهذا قال تعالى آمراً لعباده المؤمنين أن يصبروا ويثبتوا في مخالفة الكفار ولا يخافوا أحداً إلاّ الله، فقال: { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِ } أي لا تخافوهم في مخالفتكم إياهم واخشوني أنصركم عليهم وأؤيدكم وأظفركم بهم، وأشف صدوركم منهم، وأجعلكم فوقهم في الدنيا والآخرة. وقوله: { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً } هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلاّ ما أحله ولا حرام إلاّ ما حرمه، ولا دين إلاّ ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خلف، كما قال تعالى: { { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } [الأنعام: 115] أي صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي. فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم النعمة، ولهذا قال تعالى: { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً } أي فارضوه أنتم لأنفسكم فإنه الدين الذي أحبه الله ورضيه وبعث به أفضل الرسل الكرام، وأنزل به أشرف كتبه، وقال ابن عباس قوله: { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } وهو الإسلام أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً، وقد أتمه الله فلا ينقصه أبداً، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبداً. وقال السدي: نزلت هذه الآية يوم عرفة، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام. وقال ابن جرير: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوماً.
لما نزلت { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } وذلك يوم الحج الأكبر بكى عمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك"؟ قال أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذا أكمل فإنه لم يكمل شيء إلاّ نقص، فقال: "صدقت"، ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت:
"إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء" ، وقال الإمام أحمد: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب، فقال: يا أمير المؤمنين إنكم تقرأون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال: وأي آية؟ قال قوله: { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي }، فقال عمر: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، عشية عرفة في يوم جمعة. ولفظ البخاري قال، قالت اليهود لعمر: إنكم تقرأون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً، فقال عمر: إني لأعلم حين أنزلت، وأين أنزلت، وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أنزلت: يوم عرفة وأنا والله بعرفة، قال سفيان: وأشك كان يوم الجمعة أم لا { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } الآية، وقال كعب: لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيداً يجتمعون فيه، فقال عمر: أي آية يا كعب؟ فقال: { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } فقال عمر: قد علمت اليوم الذي أنزلت، والمكان الذي أنزلت فيه: في يوم الجمعة ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد. وعن علي قال: نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم عشية عرفة { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ }.
وقوله تعالى: { فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي فمن احتاج إلى تناول شيء من هذه المحرمات التي ذكرها الله تعالى لضرورة ألجأته إلى ذلك، فله تناوله، والله غفور رحيم له، لأنه تعالى يعلم حاجة عبده المضطر وافتقاره إلى ذلك فيتجاوز عنه ويغفر له. وفي المسند عن ابن عمر مرفوعاً قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن الله يحب أن تؤتى رخصته كما يكره أن تؤتى معصيته" لفظ ابن حبان؛ وفي لفظ لأحمد: "من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة" ، ولهذا قال الفقهاء: قد يكون تناول الميتة واجباً في بعض الأحيان، وهو ما إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها، وقد يكون مندوباً، وقد يكون مباحاً بحسب الأحوال، واختلفوا هل يتناول منها قدر ما يسد به الرمق، أو له أن يشبع أو يشبع ويتزود؟ على أقوال؛ كما هو مقرر في كتاب الأحكام، وليس من شرط جواز تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاماً، كما قد يتوهمه كثير من العوام وغيرهم، بل متى اضطر إلى ذلك جاز له. وقد قال الإمام أحمد، عن أبي واقد الليثي، أنهم قالوا: "يا رسول الله، إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة فمتى تحل لنا بها الميتة؟ فقال: إذا لم تصطبحوا، ولم تغتبقوا، ولم تحتفئوا بها بقلاً فشأنكم بها" ، وهو إسناد صحيح على شرط الصحيحين ومعنى قوله: "ما لم تصطبحوا" يعني به الغداء "وما لم تغتبقوا" يعني به العشاء "أو تحتفئوا بقلاً فشأنكم بها" فكلوا منها. وقال ابن جرير: يروى هذا الحرف، يعني قوله: "أو تحتفئوا" على أربعة أوجه: تحتفئوا بالهمزة، وتحتفيوا: بتخفيف الياء والحاء، وتحتفوا بتشديد الفاء، وتحتفوا بالحاء والتخفيف ويحتمل الهمز، كذا رواه في التفسير. (حديث آخر): قال أبو داود عن النجيع العامري أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما يحل لنا من الميتة؟ قال: "ما طعامكم؟" قلنا: نصطبح ونغتبق. قال أبو نعيم: فسره لي عقبة، قدح غدوة وقدح عشية، قال: ذاك وأبي الجوع، وأحل لهم الميتة على هذه الحال. تفرد به أبو داود، وكأنهم يصطبحون ويغتبقون شيئاً لا يكفيهم، فأحل لهم الميتة لتمام كفايتهم، وقد يحتج به من يرى جواز الأكل منها حتى يبلغ حد الشبع، ولا يتقيد ذلك بسد الرمق والله أعلم. (حديث آخر): قال أبو داود عن جابر عن سمرة: أن رجلاً نزل الحرة ومعه أهله وولده، فقال له رجل: إن ناقتي ضلت فإن وجدتها فأمسكها، فوجدها ولم يجد صاحبها، فمرضت فقالت له امرأته: انحرها، فأبى، فنفقت، فقالت له امرأته: أسلخها حتى تقدد شحمها ولحمها فنأكله، قال: لا، حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه فسأله، فقال: "هل عندك غنى يغنيك" قال: لا، قال: "فكلوها"، قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر فقال: هلا كنت نحرتها؟ قال: استحييت منك. وقد يحتج به من يجوز الأكل والشبع والتزود منها مدة يغلب على ظنه الاحتياج إليها، والله أعلم. وقوله: { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ } أي متعاط لمعصية الله، فإن الله قد أباح ذلك له، وسكت عن الآخر، كما قال في سورة البقرة: { { فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [الآية: 173]، وقد استدل بهذه الآية من يقول بأن العاصي بسفره لا يترخص بشيء من رخص السفر لأن الرخص لا تنال بالمعاصي، والله أعلم.