خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ أَن يُؤْتُوۤاْ أُوْلِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْمَسَاكِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوۤاْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢٢
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ٱلْغَافِلاَتِ ٱلْمُؤْمِناتِ لُعِنُواْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
٢٣
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٢٤
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ ٱللَّهُ دِينَهُمُ ٱلْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ ٱلْمُبِينُ
٢٥
ٱلْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَٱلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَٱلطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَٱلطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ أُوْلَـٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
٢٦
-النور

تفسير آيات الأحكام

[4] في أعقاب حادثة الإفك
التحليل اللفظي
{ يَأْتَلِ }: أي يحلف من (الأليّة) بمعنى الحلف، ووزنها (يَفْتَعِلْ) ومنه قوله تعالى:
{ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ } [البقرة: 226] وقال بعضهم: معناه يقصّر من قولك: ألَوْتُ في كذا إذا قصّرت فيه ومنه قوله تعالى: { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } [آل عمران: 118].
قال الزمخشري: (يأتل) من ائتلى إذا حلف: افتعال من الأليّة، وقيل: من قولهم: ما ألوت جهداً، إذا لم تدّخر منه شيئاً، ويشهد للأول قراءة الحسن: ولا يتألَّ والمعنى: لا يحلفوا على أن لا يحسنوا إلى المستحقين للإحسان.
{ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ }: أصحاب الصلاح والدين، ومعنى الفضل الزيادة والمراد هنا أهل البر والدين والصلاح.
{ وَٱلسَّعَةِ }: المراد بها السعة في الرزق والمال، الذين وسّع الله عليهم وأغناهم من فضله، قال الشاعر:

ومن يك ذا مال فيبخل بفضله على غيره يستغنى عنه ويذمم

{ أَن يُؤْتُوۤاْ } قال ابن قتيبة معناه: أن لا يؤتوا، وقال القرطبي قوله تعالى: { أَن يُؤْتُوۤاْ } أي ألاّ يؤتوا فحذف (لا) كقول القائل:

فقلتُ يمينُ اللَّه أبرحُ قاعداً ولو قطعوا رأسي لديكِ وأوصالي

أقول: هذا الحذف وارد في كلام العرب ومثله قوله تعالى: { يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [النساء: 176] أي لئلا تضلّوا أو خشية أن تضلوا.
{ وَلْيَعْفُواْ }: أي يغفروا الزلات، من عفا الربع إذا محي أثره ودرس، فهو محو الذنب حتى يعفو كما يعفو أثر الربع.
{ ٱلْمُحْصَنَاتِ }: العفائف الشريفات الطاهرات، وقد تقدم معنى الإحصان فيما سبق.
{ ٱلْغَافِلاَتِ }: جمع غافلة وهي التي غفلت عن الفاحشة، بحيث لا تخطر ببالها، وقيل: هي السليمة الصدر، النقية القلب، التي ليس فيها دهاء ولا مكر، لأنها لم تجرب الأمور، ولم تزن الأحوال، فلا تفطن لما تفطن له المجرِّبة العارفة.
{ لُعِنُواْ }: اللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله عز وجل
{ وَمَن يَلْعَنِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً } [النساء: 52] وقد يراد به الذكر السَّيِّئ أو الحد (الجلد) كما في هذه الآية حيث أقيم عليهم حد القذف.
{ تَشْهَدُ }: تقر وتعترف، وشهادة الألسنة إقرارها بما تكلموا به من الفرية، وهؤلاء غير الذين يختم على أفواههم. وقال ابن جرير: المعنى أنّ ألسنة بعضهم تشهد على بعض بما كانوا يعملون من القذف والبهتان.
{ يُوَفِّيهِمُ }: التوفية إعطاء الشيء وافياً، يقال: تَوفّى حقه إذا أخذه كاملاً غير منقوص.
{ دِينَهُمُ ٱلْحَقَّ }: أي حسابهم العدل، أو جزاءهم الواجب، والدين في اللغة بمعنى الجزاء، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم
"إعمل ما شئت كما تدين تدان" أي كما تفعل تجزى.
{ ٱلْخَبِيثَٰتُ لِلْخَبِيثِينَ }: المعنى الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، وهو جمع خبيثة وخبيث، والخبيثُ الذي يعمل الفواحش والمنكرات سمّى خبيثاً لخبث باطنه وسوء عمله قال تعالى:
{ { وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ ٱلْخَبَائِثَ } [الأنبياء: 74] وذهب جمهور المفسّرين إلى أن معنى الآية: الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال. والخبيثون من الناس للخبيثات من القول، والكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول.. قال النحاس: وهذا أحسن ما قيل في هذه الآية واختاره ابن جرير الطبري.
{ مُبَرَّءُونَ }: أي منزّهون مما رُمُوا به، والمراد بالآية براءة الصدّيقة عائشة رضي الله عنها مما رماها به أهل الإفك والبهتان، وجاء بصيغة الجمع للتعظيم.
{ مَّغْفِرَةٌ }: أي محو وغفران للذنب، والبشر جميعاً معرضون للخطأ وقيل في الآية إنه من باب: (حسناتُ الأبرار سيئات المقربين).
{ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }: قال الألوسي: هو الجنة كما قال أكثر المفسرين. ويشهد له قوله تعالى في سورة الأحزاب في أمهات المؤمنين
{ { وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً } [الأحزاب: 31] فإن المراد به الجنة.
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه: لا يحلف أهل الفضل والصلاح والدين. الذين وسّع الله عليهم في الرزق وأغناهم من فضله، على ألا يؤتوا أقاربهم من الفقراء والمهاجرين ما كانوا يعطونهم إياه من الإحسان لجرم ارتكبوه، أو ذنب فعلوه. وليعفوا عما كان منهم من جرم، وليصفحوا عما بدر منهم من إساءة. وليعودوا إلى مثل ما كانوا عليه من الإفضال والإحسان، ألا تحبون أيها المؤمنون أن يكفر الله عنكم سيئاتكم، ويغفر لكم ذنوبكم، ويدخلكم الجنة مع الأبرار!!
ثم أخبر تعالى بأن الذين يرمون المؤمنات العفيفات الطاهرات بالزنى، ويقذفونهن بالفاحشة، وهنّ الغافلات عن مثل هذا الافتراء والبهتان... هؤلاء الذين يتهمون الحرائر العفيفات الشريفات، قد لعنهم الله بسبب هذا البهتان. فطردهم من رحمته، وأوجب لهم العذاب الأليم، الجلد في الدنيا، وعذاب جهنم في الآخرة، بسبب ما ارتكبوا من إثم وجريمة في حق أولئك المؤمنات... وليس هذا فحسب بل سوف تنطق عليهم جوارحهم، وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم، في ذلك اليوم الرهيب. بما كانوا يفعلونه من الإفك والبهتان، وستكون فضيحتهم عظيمة، عندما ينكشف أمرهم على رؤوس الأشهاد، وينالون جزاءهم العادل من أحكم الحاكمين، الذي لا يضيع عنده مثقال ذرة ويعلمون في ذلك اليوم أن الله عادل، لا يظلم أحداً من خلقه؛ لأنه هو الحق المبين، الذي يكشف لكل إنسان كتاب أعماله، ويجازيه عليها الجزاء العادل.
ثمّ أخبر تعالى ببراءة السيدة عائشة الصدّيقة أم المؤمنين رضوان الله عليها، مما رماها به أهل الضلال والنفاق، وتقوّلوا به عليها من الفاحشة، وأتى بالبرهان الساطع، والدليل القاطع، على عصمتها ونزاهتها وبراءتها، فهي زوج رسول الله الطاهرة الشريفة، ورسول الله طيّب طاهر. وقد جرت سنة الله أن يسوق الجنس إلى جنسه، فالخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء. والطيبات من النساء للطّيبين من الرجال، والطّيبون من الرجال للطيبات من النساء، أولئك المتهمات في أعراضهن، بريئات من تلك التهمة الشنيعة، كيف لا وهنَّ أزواج أشرف رسول، وأكرم مخلوق على الله، وما كان الله ليقسمهنَّ لأحب عباده إليه إن لم يكنَّ طاهرات النفس { أُوْلَـٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }!!
سبب النزول
1 - روى ابن جرير الطبري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لما نزل قوله تعالى:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُوا بِٱلإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ } [النور: 11] الآية في عائشة وفيمن قال لها ما قال، قال أبو بكر: - وكان ينفق على مسطح لقرابته وحاجته - والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً، ولا أنفعه بنفع أبداً، بعد الذي قال لعائشة ما قال، وأدخل عليها ما أدخل، قالت فأنزل الله في ذلك: { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ أَن يُؤْتُوۤاْ أُوْلِي ٱلْقُرْبَىٰ... } الآية قالت: فقال أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجّع إلى مسطح نفقته التي كان ينفق عليه، وقال: "والله لا أنزعها منه أبداً"
2 - وأخرج ابن المنذر عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان مسطح بن أثاثة) ممن تولى كِبْرَه من أهل الإفك، وكان قريباً لأبي بكر، وكان في عياله، فحلف أبو بكر رضي الله عنه أن لا ينيله خيراً أبداً فأنزل الله { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ } الآية قالت: فأعاده أبو بكر إلى عياله، وقال: لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها، إلاّ تحلّلتها وأتيت الذي هو خير.
وفي رواية أخرى أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم دعا أبا بكر فتلاها عليه، فقال: ألا تحب أن يغفر الله لك؟ قال: بلى، قال: فاعف عنه وتجاوز، فقال أبو بكر: لا جرم والله لا أمنعه معروفاً كنت أوليه قبل اليوم، وضعّف له بعد ذلك فكان يعطيه ضِعْفي ما كان يعطيه.
وجوه القراءات
1 - قرأ الجمهور (وَلاَ يَأْتَلِ) على وزن (يفتعِل) وقرأ الحسن وأبو العالية (ولا يتألّ) بهمزة مفتوحة مع تشديد اللام على وزن (يتعَلَّ) وهو مضارع تألى بمعنى حلف قال الشاعر:

تألّى ابن أوس حِلفةً ليردّني إلى نسوة لي كأنهن مقائد

وهذه القراءة تؤيد المعنى الأول ليأتل. وليس كما قال أبو عبيدة إنه من (الألْو) بوزن الدلو بمعنى لا يقصّر، واستشهد بقوله تعالى: { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } [آل عمران: 118] فإنّ سبب النزول يؤيد الرأي الأول.
2 - قرأ الجمهور (أَن يُؤْتُوۤاْ) وقرأ أبو حيوة (أن تُؤتوا) بتاء الخطاب على طريق الالتفات.
3 - قوله: { وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوۤاْ } قراءة الجمهور بالياء، وقرأ الحسن، وسفيان بن الحسين (ولتَعْفوا ولتَصْفحوا) بتاء الخطاب على وفق قوله تعالى: { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ }.
4 - قرأ الجمهور (يوم تشهد) بالتاء، وقرأ حمزة والكسائي (يوم يشهد) بالياء بدل التاء، قال الألوسي: ووجهه ظاهر.
5 - قرأ الجمهور (دينَهم الحقّ) بالفتح على أنه صفة للدّين بمعنى حسابهم العدل، وقرأ مجاهد والأعمش (دينَهم الحقُّ) برفع القاف على أنه صفة للاسم الجليل. (ويجوز الفصل بالمفعول بين الموصوف وصفته) ويصبح المعنى: يومئذ يوفيهم اللَّهُ الحقّ دينهم.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى: قوله تعالى: { أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ... } الآية هذه شهادة عظيمة من الله سبحانه بفضل أبي بكر، وأنه أفضل الصحابة.
قال الفخر الرازي: أجمع المفسّرون على أن المراد من قوله تعالى: { أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ } أبو بكر رضي الله عنه، وهذه الآية تدل على أنه كان أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه تعالى ذكره في معرض المدح له، والمدح من الله تعالى بالدنيا غير جائز. فتعيّن أن يكون المراد منه الفضل في الدين. ولأنه لو أريد به الفضل في الدنيا لكان قوله (والسعة) تكريراً. فلما أثبت الله له الفضل المطلق وجب أن يكون أفضل الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو السعود: قوله تعالى: { أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ } أي في الدين، وكفى به دليلاً على فضل الصدّيق رضي الله تعالى عنه.
اللطيفة الثانية: قوله تعالى: { أَن يُؤْتُوۤاْ } فيه حذف بالإيجاز، فقد حذفت منه (لا) لدلالة المعنى على ذلك، أي على أن لا يؤتوا. قال الزجّاج، إنّ (لا) تحذف في اليمين كثيراً قال تعالى:
{ وَلاَ تَجْعَلُواْ ٱللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ } [البقرة: 224] يعني أن لا تبروا. وقال امرؤ القيس: "فقلت يمين الله أبرح قاعداً" أي لا أبرح.
اللطيفة الثالثة: قوله تعالى: { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ } هذا خطاب بصيغة الجمع، والمراد به أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وورد الخطاب بهذه الصيغة للتعظيم كقوله تعالى:
{ { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ } [الحجر: 9].
قال الإمام الفخررحمه الله : "فانظر إلى الشخص الذي كناه الله سبحانه مع جلاله بصيغة الجمع كيف يكون علو شأنه" وحين سمعها أبو بكر قال: بلى أحب أن يغفر الله لي. وأعاد النفقة إلى مسطح.
اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ } قال العلامة ابن الجوزي: فإن قيل: لم اقتصر على ذكر المحصنات دون الرجال؟
فالجواب أنّ من رمى مؤمنة فلا بدّ أن يرمي معها مؤمناً، فاستغني عن ذكر المؤمنين. ومثله قوله تعالى:
{ { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ } [النحل: 81] أراد: والبرد، قاله الزجاج.
اللطيفة الخامسة: ذكر الله تعالى في أول السورة المحصنات بقوله:
{ { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } [النور: 4] ولم يقيّد المحصنات هناك بوصفٍ وأما هنا فقد قيّده بأوصاف عديدة بقوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ٱلْغَافِلاَتِ ٱلْمُؤْمِناتِ } والسرُّ في هذا أن هذه الآيات خاصة بأمهات المؤمنين، رضوان الله عليهن أجمعين، وتدخل السيدة عائشة فيهن دخولاً أولياً، فاتهام هؤلاء الأزواج الطاهرات إتهام لـ (بيت النبوّة)، وإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما، حين قرأ سورة النور ففسّرها فلما أتى على هذه الآية { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ٱلْغَافِلاَتِ ٱلْمُؤْمِناتِ } قال: هذه في (عائشة) وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجعل لمن فعل ذلك توبة، وجعل لمن رمى امرأة من المؤمنات، من غير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم التوبة، ثم تلا هذه الآية { لُعِنُواْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } فهمّ بعض القوم أن يقوم إلى ابن عباس فيقبّل رأسه لحسن ما فسّره.
اللطيفة السادسة: أشارت الآية الكريمة وهي قوله تعالى: { ٱلْخَبِيثَٰتُ لِلْخَبِيثِينَ وَٱلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَٰتِ } إلى مبدأ هام من مبادئ الحياة الاجتماعية، وهو أن النفوس الخبيثة لا تلتئم إلا مع النفوس الخبيثة من مثلها، والنفوس الطيبة لا تمتزج إلا بالنفوس الطيبة من مثلها، وحيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب الأطيبين، وأفضل الأولين والآخرين، تبيّن أنّ الصدّيقة رضي الله عنها من أطيب النساء بالضرورة، وأنّ ما قيل في حقها كذب وبهتان كما نطق بذلك القرآن { أُوْلَـٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ } ويا لها من شهادة قاطعة!!
قال أبو السعود: "هذا مسوق على قاعدة السنّة الإلٰهية، الجارية فيما بين الخلق، على موجب أنّ لله ملكاً يسوق الأهل إلى الأهل، لأن المجانسة من دواعي الانضمام... وما في الإشارة من معنى البعد (أولئك) للإيذان بعلو رتبة المشار إليهم، وبعد منزلتهم في الفضل، أي أولئك الموصوفون بعلو الشأن، مبرءون مما تقوّله أهل الإفك في حقهم من الأكاذيب الباطلة".
اللطيفة السابعة: قال الزمخشري في تفسيره "الكشاف": "لقد برَأ الله تعالى أربعة بأربعة: برّأ يوسف بلسان الشاهد
{ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ } [يوسف: 26]. وبرّأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه.. وبرّأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى من حجرها { إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ } [مريم: 30]. وبرّأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز، المتلوّ على وجه الدهر، مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات فانظر كم بينها وبين تبرئة أولئك؟ وما ذاك إلاّ لإظهار علو منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتنبيه على إنافة محل سيد آدم، وخيرة الأولين والآخرين وحجة الله على العالمين، ومن أراد أن يتحقّق عظمة شأنه صلى الله عليه وسلم، وتقدّم قدمه، وإحرازه قَصَب السبق دون كل سابق، فليتلقّ ذلك من آيات الإفك، وليتأمل كيف غضب الله في حرمته، وكيف بالغ في نفي التهمة عن حجابه".
خصائص السيدة عائشة رضي الله عنها
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "لقد أُعطِيتُ تسعاً ما أعطيتهنّ امرأة: لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني، ولقد تزوجني بكراً وما تزوّج بكراً غيري. ولقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن رأسه لفي حجري، ولقد قبر في بيتي. ولقد حفّته الملائكة في بيتي. وإن الوحي لينزل عليه في أهله فيتفرقون عنه، وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه، وإني لابنة خليفته وصديقه، ولقد نزل عذري من السماء، ولقد خُلقت طيّبة عند طيّب. ولقد وعدت مغفرة ورزقاً كريماً".
الأحكام الشرعية
الحكم الأول: هل يحبط العمل الصالح بارتكاب المعاصي؟
أجمع المفسّرون على أن المراد من قوله تعالى: { أُوْلِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْمَسَاكِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } مِسْطَح، لأنه كان قريباً لأبي بكر، وكان من المساكين، والمهاجرين البدريّين، وكان قد وقع في حديث الإفك، وقذف عائشة ثم تاب بعد ذلك، ولا شك أن القذف من الذنوب الكبائر، وقد احتج أهل السنة والجماعة بهذه الآية الكريمة على عدم بطلان العمل بارتكاب الذنوب والمعاصي، ووجه الاستدلال أن الله سبحانه وصف (مسطحاً) بكونه من المهاجرين في سبيل الله بعد أن أتى بالقذف، وهذه صفة مدح، فدلّ على أنّ ثواب كونه مهاجراً لم يحبط بإقدامه على القذف. وقالوا: لا يحبط العمل إلا بالإشراك، والردة عن الإسلام والعياذ بالله، أما سائر المعاصي فلا تُحبِط العمل إلا إذا استحل الإنسان المحرّم فحينئذٍ يرتد وبالردة يحبط العمل قال تعالى:
{ وَمَن يَكْفُرْ بِٱلإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [المائدة: 5] وقال تعالى: { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلۤـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ... } [البقرة: 217] الآية.
الحكم الثاني: هل العفو عن المسيء واجب على الإنسان؟
اتفق الفقهاء على أنّ العفو والصفح عن المسيء حسن ومندوب إليه، لقوله تعالى: { وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوۤاْ } والأمر هنا للندب والإرشاد، وليس للوجوب، لأن الإنسان يجوز له أن يقتص ممّن أساء إليه، فلو كان العفو واجباً لما جاز طلب القصاص، ومما يدل لرأي الفقهاء قوله تعالى:
{ { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ } [الشورى: 40] وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه، ويعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه" فيندب العفو عن المسيء لقوله تعالى: { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ }؟ فعلّق الغفران بالعفو والصفح، قال الإمام الفخر: ولو لم يدل عليه إلا هذه الآية لكفى.
الحكم الثالث: هل تجب الكفارة على من حنث في يمينه؟
ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ من حلف على يمين، فرأى غيرها خيراً منها، أنه ينبغي له أن يأتي الذي هو خير، ثمّ يكفّر عن يمينه لقوله عليه السلام:
"من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليأت الذي هو خير، وليكفّر عن يمينه" .
فتجب الكفارة بالحنث في اليمين، سواء كان الحانث في أمر فيه خير أو غير ذلك. وقال بعضهم: إنه يأتي بالذي هو خير وليس عليه كفارة ليمينه، واستدلوا بظاهر هذه الآية { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ } ووجه استدلالهم أن الله تعالى أمر أبا بكر بالحنث ولم يوجب عليه كفارة.
واستدلوا كذلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
"من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وذلك كفارته" .
أدلة الجمهور:
استدل الجمهور على وجوب الكفارة على الحانث بما يلي:
أ - قوله تعالى:
{ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } [المائدة: 89] الآية.
ب - وقوله تعالى:
{ ذٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } [المائدة: 89] وذلك عام في الحانث في الخير وغيره.
جـ - وقوله تعالى في شأن أيوب حين حلف على امرأته أن يضربها
{ { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَٱضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ } [ صۤ: 44] والحنث كان خيراً من تركه، وأمره الله بضرب لا يبلغ منها، ولو كان الحنث فيها كفارتها لما أمر بضربها، بل كان يحنث بلا كفارة.
د- وبحديث
"فليأت الذي هو خير وليكفّر عن يمينه" وقد تقدم.
قال الجصاص: "أما استدلالهم بالآية فليس فيما ذكروا دلالة على سقوط الكفارة، لأن الله قد بيّن إيجاب الكفارة في قوله:
{ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } وقوله: { ذٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ } [المائدة: 89] وذلك عام فيمن حنث فيما هو خير وفي غيره، وأما استدلالهم بالحديث "فليأت الذي هو خير وذلك كفارته" فإن معناه تكفير الذنب. لا الكفارة المذكورة في الكتاب، وذلك لأنه منهي عن أن يحلف على ترك طاعة الله. فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالحنث والتوبة، وأخبر أن ذلك يكفّر ذنبه الذي اقترفه بالحلف".
وقال ابن العربي: عجبت لقوم يتكلفون فيتكلمون بما لا يعلمون، هذا أبو بكر حلف ألا ينفق على مسطح، ثم رجَّع إليه نفقته، فمن للمتكلف لنا تكلّف بأن أبا بكر لم يكفّر حتى يتكلم بهذا الهزء.
الترجيح: ومن استعراض الأدلة يتبيّن لنا قوة رأي الجمهور في وجوب الكفارة على الحانث مطلقاً وضعف رأي غيرهم والله أعلم.
الحكم الرابع: هل تنعقد اليمين في الامتناع عن فعل الخير؟
تنعقد اليمين إذا حلف الإنسان أن يمتنع عن فعل الخير وتجب عليه الكفارة عند الجمهور كما أسلفنا، ولكنّ هذا النوع من الحلف غير جائز لما فيه من ترك الطاعة لله عز وجل في قوله:
{ وَٱفْعَلُواْ ٱلْخَيْرَ } [الحج: 77]. قال الفخر الرازي: "في هذه الآية دلالة على أن اليمين على الامتناع من الخير غير جائزة، وإنما تجوز إذا جعلت داعية للخير، لا صارفة عنه".
وقال الألوسي: "وظاهر هذا حمل النهي على التحريم، وقيل: هو للكراهة، وقيل: إن الحلف على ترك الطاعة قد يكون حراماً، وقد يكون مكروهاً، فالنهي هنا لطلب الترك مطلقاً".
الحكم الخامس: هل يكفر من قذف إحدى أمهات المؤمنين؟
ذهب بعض العلماء إلى كفر من قذف إحدى نساء الرسول (أمهات المؤمنين) رضوان الله عليهن، وذلك لما ورد من الوعيد الشديد في حق قاذفهن كما قال تعالى: { لُعِنُواْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } حتى ذهب ابن عباس إلى عدم قبول توبته.
وحجة هؤلاء أن قذف أمهات المؤمنين، طعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجرح لكرامته ومن استباح الطعن في عرض الرسول فهو كافر مرتد عن الإسلام.
قال العلامة الألوسيرحمه الله : "وظاهر هذه الآية كفر قاذف أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن لأن الله عز وجلّ رتّب على رميهن عقوبات مختصة بالكفار والمنافقين، والذي ينبغي أن يعوَّلَ الحكم عليه بكفر من رمى إحدى أمهات المؤمنين، بعد نزول الآيات، وتبيّن أنهن طيبات، سواء استباح الرمي أم قصد الطعن برسول الله صلى الله عليه وسلم أم لم يستبح ولم يقصد، وأمّا من رمى قبل فالحكم بكفره مطلقاً غير ظاهر.
والظاهر أن يحكم بكفره إن كان مستبيحاً، أو قاصداً الطعن به عليه الصلاة والسلام كابن أُبيّ لعنه الله تعالى، فإن ذلك مما يقتضيه إمعانه في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحكم بكفره إن لم يكن كذلك كحسّان. ومِسطَح، وحمنة، فإنّ الظاهر أنهم لم يكونوا مستحلين، ولا قاصدين الطعن بسيّد المرسلين، وإنما قالوا ما قالوا تقليداً، فوبخوا على ذلك توبيخاً شديداً".
أقول: إنّ من استحلّ قذف إحدى المؤمنات كافر، فكيف بمن يستحل قذف أمهات المؤمنين الطاهرات وعلى رأسهن الصدّيقة عائشة التي برأها القرآن الكريم، ونزلت براءتها من السماء؟ ولا شك أن الخوض في أمهات المؤمنين بعد نزول القرآن الكريم، تكذيب لله عز وجل في إخباره، وطعن لرسول الله وإيذاء له في نسائه وهنّ العفيفات، الطاهرات، الشريفات، فيكون قاذفهن كافراً بلا تردد. والله تعالى يقول:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً } [الأحزاب: 57].
الحكم السادس: هل يجوز لعن الفاسق أو الكافر؟
دلّ قوله تعالى: { لُعِنُواْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } على جواز لعن الفاسق أو الكافر، وقد اتفق الفقهاء على جواز لعن من مات على الكفر كأبي جهل وأبي لهب، وعلى جواز التعميم باللعنة على الكفرة والفسقة والظالمين كقوله: لعنة الله على الظالمين، أو لعنة الله على الفاسقين، أو الكافرين... أما إذا خصّص باللعنة إنساناً معيّناً فلا يجوز حتى ولو كان كافراً، لأن معنى اللعنة: الطرد من رحمة الله. والدعاء عليه بأن يموت على الكفر، ولا يجوز لمسلم أن يتمنى موت غيره على الكفر، لأن الرضى بكفر الكافر كفر، والمسلم يريد الخير للناس، ويتمنى أن يموتوا على الإيمان جميعاً.
قال الألوسي: "واعلم أنه لا خلاف في جواز لعن كافر معين، تحقّق موته على الكفر، إن لم يتضمن إيذاء مسلم، أما إن تضمّن ذلك حرم، ومن الحرام لعن (أبي طالب) على القول بموته كافراً، بل هو من أعظم ما يتضمن ما فيه إيذاء من يحرم إيذاؤه، ثمّ أن لعن من يجوز لعنه لا أرى أنه يعد عبادة إلا إذا تضمّن مصلحةً شرعية، وأما لعن كافر معيّن حي، فالمشهور أنه حرام، ومقتضى كلام حجة الإسلام الغزالي أنه كفر، لما فيه من سؤال تثبيته على الكفر الذي هو سبب اللعنة، وسؤالُ ذلك كفر".
وقال العلامة ابن حجر: "ينبغي أن يقال: إن أراد بلعنه الدعاء عليه بتشديد الأمر، أو أطلق لم يكفر، وإن أراد سؤال بقائه على الكفر، أو الرضى ببقائه عليه كفر، فتدبر ذلك حق التدبر".
أقول: وردت نصوص في السنة المطهّرة تدل على جواز لعن الفاسق المعين، أو العاصي المشتهر الذي كثر ضرره، منها ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بحمارٍ وُسِمَ في وجهه فقال:
"لعن الله من فعل هذا" .
ومنها ما صح أنه صلى الله عليه وسلم لعن قبائل من العرب بأعيانهم فقال: "اللهم العن رَعْلاً، وذَكوان، وعُصيّة، عصَوا الله تعالى ورسوله" .
ومنها حديث "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء، فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح" .
فيجوز لعن من اشتهر بالفسق والمعصية، وخاصة إذا كان ضرره بيناً أو أذاه واضحاً يتعدى إلى الناس، أو كان سيفاً للحجاج مسلطاً بالظلم والطغيان، كزبانية هذا الزمان، الذين يعتدون على عباد الله بدون حق، وقد أصبحنا في زمان لا يأمن فيه الإنسان على نفسه أو ماله وإنا لله وإنّا إليه راجعون، وقد حدّث المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى عن مثل هذا الصنف من الظلمة، وذلك من معجزات النبوة ففي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس" .. الحديث.
فيجوز لعن مثل هؤلاء الظلمة، المستبيحين للحرمات.. والدعاء لهم بالصلاح أفضل من اللّعن ولكن هيهات أن ينفع الدعاء بالصلاح لأمثال (أبي جهل) و(أبي لهب)!!
وقد قال (السراج البلقيني) بجواز لعن العاصي المعيّن، أو الفاسق المستهتر، وذلك ما دلت عليه النصوص النبوية الكريمة والله أعلم.
الحكم السابع: هل يقطع لأمهات المؤمنين بدخول الجنة؟
اتفق العلماء على أن العشرة المبشرين بالجنة، الذين أخبر عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة، يقطع لهم بدخول الجنة، لأنّ خبر الرسول حق وهو بوحي من الله تعالى، وقد ألحق بعض العلماء أمهات المؤمنين بالعشرة المبشرين، بأنه يقطع لهن بدخول الجنة، واستدلوا بقوله تعالى: { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } بناءً على أن الآيات الكريمة نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عامة وفي شأن عائشة خاصة، والرزق الكريم الذي أشارت إليه الآية يراد منه الجنة بدليل قوله تعالى في مكان آخر
{ وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً } [الأحزاب: 31] وهو استدلال حسن.
قال الإمام الفخر: "بيّن الله تعالى أن الطيبات من النساء للطيبين من الرجال، ولا أحد أطيب ولا أطهر من الرسول صلى الله عليه وسلم فأزواجه إذن لا يجوز أن يكنّ إلاّ طيبات. ثمّ بيّن تعالى أنّ { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } ويحتمل أن يكون ذلك خبراً مقطوعاً به. فيعلم بذلك أن أزواج الرسول عليه الصلاة والسلام هنّ معه في الجنة، وهذا يدل على أن عائشة رضي الله عنها تصير إلى الجنّة، بخلاف مذهب الرافضة الذين يكفّرونها بسبب حرب يوم الجمل، فإنهم يردّون بذلك نصّ القرآن الكريم".
وقال العلامة الألوسي: "وممّا يرد زعم الرافضة، القائلين بكفرها وموتها على ذلك وحاشاها لقصة وقعة الجمل، قول عمار بن ياسر في خطبته حين بعثه الأمير كرّم الله وجهه مع الحسن يستنفران أهل المدينة وأهل الكوفة: والله إني لأعلم أنها زوجة نبيّكم عليه الصلاة والسلام في الدنيا والآخرة. ولكن الله تعالى ابتلاكم بها ليعلم أتطيعونه أم تطيعونها"؟ ثم قال: "ومما يقضي منه العجب ما رأيته في كتب بعض الشيعة. من أنها خرجت من أمهات المؤمنين بعد تلك الوقعة. لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأمير كرّم الله وجهه:
"قد أذنت لك أن تُخْرج بعد وفاتي من الزوجيّة من شئت من أزواجي" ، فأخرجها من ذلك لما صدر منها معه ما صدر. ولعمري إنّ هذا مما يكاد يضحك الثكلى، وفي حسن معاملة الأمير إياها رضي الله تعالى عنها بعد استيلائه على العسكر ما يكذب ذلك. ولو لم يكن في فضلها إلا ما رواه البخاري ومسلم وأحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" لكفى ذلك، لكني مع هذا لا أقول بأنها أفضل من بضعته الكريمة فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها".
قصة الإفك
لم تسترح نفوس المنافقين من الكيد للإسلام، والدسّ على المسلمين، حتى استهدفوا صاحب الرسالة العظمى محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، فرموه في أقدس شيء وأعزه، في عرضه المصون، وأهله الطاهرة البريئة، السيدة عائشة بنت الصدّيق الأكبر رضي الله عنهما، وقد حاولوا بذلك أن يوجهوا ضربة للإسلام في الصميم، في شخص نبيه الكريم، عن طريق الطعن في عرضه واتهام أهله بارتكابها فاحشة الزنى التي هي من أقبح الجرائم وأشنعها على الإطلاق، وكان الذي تولى كبر هذه التهمة النكراء، وأشاع ذلك الإفك المفتري المزعوم. رأس المنافقين (عبد الله بن أُبيّ بن سلول) لعنه الله، الذي ما فتئ يكيد للإسلام ولرسوله الكريم حتى أهلكه الله تعالى، وخلّص المسلمين من شره وبلائه.
وقد أنزل الله تبارك وتعالى في شأن هذا المنافق وغيره من المنافقين قرآناً يُتلى، وآيات تسطّر، ليكون ذلك درساً وعبرة للأمة، لتعرف فيه خطر (النفاق والمنافقين) وضررهم على الأمة الإسلامية، فيأخذوا الحيطة والحذر. والقرآن الكريم يكشف لنا عن شناعة الجرم وبشاعته، وهو يتناول بيت النبوّة الطاهر، وعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم إنسان على الله، وعرض صديقه الأول (أبي بكر) رضي الله عنه أكرم إنسان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض رجل من خيرة الصحابة (صفوان بن المعطل) رضي الله عنه، يشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لم يعرف عليه إلا خيراً... ذلك هو حديث الإفك الذي نزل فيه عشر آيات في كتاب الله تعالى، تبتدئ من قوله تعالى:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُوا بِٱلإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ مَّا ٱكْتَسَبَ مِنَ ٱلإِثْمِ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النور: 11] وتنتهي بالبراءة التامة لبيت النبوة في قوله تعالى: { ٱلْخَبِيثَٰتُ لِلْخَبِيثِينَ وَٱلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَٰتِ وَٱلطَّيِّبَٰتُ لِلطَّيِّبِينَ وَٱلطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَٰتِ أُوْلَـٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }.
هذا الحادث - حادث الإفك - قد كلف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلاماً لا تطاق. وكلّف الأمة المسلمة كلها تجربة من أشق التجارب في تاريخها الطويل، وزرع في بعض النفوس الشك والريبة والقلق، وعلّق قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلب زوجه عائشة التي يحبها، وقلب أبي بكر الصديق، وقلب صفوان بن المعطل شهراً كاملاً. وجعلها في حالة من الألم الذي لا يطاق، حتى نزل القرآن ببراءة زوج الرسول، الطاهرة العفيفة الشريفة، وببراءة ذلك المؤمن المجاهد المناضل (صفوان) وإدانة أهل النفاق، وحزب الضلال وعلى رأسهم (عبد الله بن أبي بن سلول) بالتآمر على بيت النبوة، وترويج الدعايات المغرضة ضد صاحب الرسالة عليه السلام، واختلاق الإفك والبهتان ضد المحصنات الغافلات المؤمنات، في تلك الحادثة المفجعة الأليمة.
ومن المؤسف أن يغترّ بهذه التهمة النكراء بعض المسلمين، وأن يتناقلها السذّج البسطاء منهم، وهم في غفلة عن مكائد المنافقين، ومؤامراتهم ومخططاتهم، التي يستهدفون بها الإسلام. وأن تروج أمثال هذه الفرية المكذوبة، فيقع في حبائل هذا الإفك والبهتان، أناس مؤمنون مشهورون بالتقى والصلاح. كأمثال (مسطح بن أثاثة) و(حسّان بن ثابت) و(حمنة بنت جحش) أخت السيدة زينب زوج الرسول الكريم، فلنترك المجال لأم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها، تروي لنا قصة هذا الألم، وتكشف عن سرّ هذه الآيات الكريمة التي نزلت بشأنها، وما افتراه عليها أهل الإفك والبهتان.
قصة الإفك كما في "الصحيحين"
روى الإمام البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتُهنَّ خرج سهمها خرج بها معه. وإنه أقرع بيننا في غزاة فخرج سهمي. فخرجت معه بعدما أنزل الحجاب، وأنا أحمل في هودج وأُنْزَل فيه. فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل، ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل حتى جاوزت الجيش. فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظِفَار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه.
وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه. وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يثقلهن اللحم. وإنما نأكل العُلْقَة من الطعام. فلم يستنكر القوم حين رفعوه خفة الهودج، فحملوه وكنت جارية حديثة السن. فبعثوا الجمل وساروا، فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش. فجئت منزلهم وليس فيه أحد منهم. فتيممت منزلي وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إليّ.
فبينما أنا جالسة غلبتني عيناي فنمت، وكان (صفوان بن المعطل السُّلَمي) ثم الذكواني قد عرّس وراء الجيش فادّلج فأصبح عندي منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني - وكان يراني قبل الحجاب - فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمّرت وجهي بجلبابي، والله ما كلمني بكلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته، فوطئ على يديها فركبها، فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا مُعَرِّسين، قالت: فهلك في شأني من هلك، وكان الذي تولى كبر الإثم (عبد الله بن أبيّ بن سلول) فقدمنا المدينة فاشتكيت بها شهراً، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر.
وهو يريبني في وجعي أني لا أرى من النبي صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلّم ثم يقول:
"كيف تيكم؟" ثم ينصرف، فذلك الذي يريبني منه، ولا أشعر بالشر حتى نقهت.
فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا، وكنا لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل. وذلك قبل أن نتخذ الكُنُف، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط، فأقبلت أنا وأم مسطح - وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق - وابنها (مسطح بن أثاثة) حتى فرغنا من شأننا نمشي، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلاً شهد بدراً؟
فقالت يا هنتاه: ألم تسمعي ما قال؟ فقلت: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضاً إلى مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
"كيف تيكم؟" فقلت: ائذن لي أن آتي أبوي - وأنا حينئذٍ أريد أن استيقن الخبر من قبلهما - فأذن لي، فأتيت أبويّ فقلت لأمي: يا أمتاه ماذا يتحدث الناس به؟ فقالت يا بنيّة: هوّني على نفسك الشأن، فوالله لقلّما كانت امرأة قط وضيئة، عند رجل يحبها ولها ضرائر إلاّ أكثرن عليها، فقلت: سبحان الله ولقد تحدّث الناس بهذا؟
قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي.. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد - رضي الله عنهما - حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة فأشار عليه بما يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم من الودّ لهم، فقال أسامة: هم أهلك يا رسول الله، ولا نعلم والله إلا خيراً.
وأما علي بن أبي طالب فقال يا رسول الله: لم يضيّق الله عليك، والنساءُ سواها كثير، وسل الجارية تخبرك، قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال لها:
"أي بريرة: هل رأيت فيها شيئاً يريبك؟ " فقالت: لا والذي بعثك بالحق نبياً، إن رأيت منها أمراً أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله. قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه واستعذر من (عبد الله بن أبي بن سلول) فقال وهو على المنبر: "من يعذرني من رجلٍ بلغني أذاه في أهلي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً... ولقد ذكروا لي رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي" .
قالت: فقام (سعد بن معاذ) فقال يا رسول الله أنا والله أعذرك منه إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك!
فقام (سعد بن عبادة) وهو سيّد الخزرج - وكان رجلاً صالحاً ولكن أخذته الحميّة - فقال لسعد بن معاذ: كذبتَ لعمرُ الله لا تقتله ولا تقدر على ذلك.
فقام (أُسَيْد بن حُضَيْر) وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنّه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين.
فثار الحيّان (الأوس) و (الخزرج) حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فلم يزل يخفّضهم حتى سكتوا ونزل.
وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، فأصبح أبواي عندي، وقد بكيت ليلتين ويوماً حتى أظن أن البكاء فالق كبدي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت امرأة من الأنصار، فأذنت لها. فجلست تبكي معي.
فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جلس - ولم يجلس عندي من يوم قيل فيّ ما قيل قبلها، وقد مكث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء - فتشهّد حين جلس ثم قال:
"أما بعد فإنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى، وإن كنت ألممت بذنب، فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه" .
فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحسّ منه بقطرة، فقلت لأبي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال!! قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله. فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال!! قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله. قالت: وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن، فقلت: إني والله أعلم أنكم سمعتم حديثاً تحدّث الناس به، واستقرَّ في نفوسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة لا تصدّقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمرٍ، واللَّهُ يعلم أني منه بريئة لتصدقُنَّني، فوالله ما أجد لي ولكم مثلاً إلاّ أبا يوسف إذ قال { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ } [يوسف: 18].
ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، وأنا والله أعلم أني بريئة، وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل الله تعالى في شأني وحياً يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله تعالى فيّ كلاماً يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها.
فوالله ما رام مجلسه، ولا خرج أحد من البيت، حتى أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، فسرّي عنه وهو يضحك... فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي:
"يا عائشة احمدي الله تعالى فإنه قد برأك" .
فقالت لي أمي: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحمديه - فقلت: والله لا أقوم إليه. ولا أحمد إلا الله تعالى، هو الذي أنزل براءتي، فأنزل الله تعالى: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُوا بِٱلإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ... } [النور: 11] الآيات العشر.
فلما أنزل الله تعالى هذا في براءتي. قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه - وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره - والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعدما قال لعائشة فأنزل الله تعالى: { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ... } إلى قوله: { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فقال أبو بكر رضي الله عنه: بل والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجَّع إلى مسطح النفقة التي كان يجري عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبداً.
قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري فقال:
"يا زينب ما علمت وما رأيت" ؟ فقالت يا رسول الله: أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عليها إلا خيراً قالت: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله تعالى بالورع. قالت: فطفقت أختها (حمنة) تحارب لها، فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك".
قال ابن شهاب: فهذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط.
"رواه البخاري ومسلم"
وهكذا يظهر لنا خطر النفاق والمنافقين، وتآمرهم على الإسلام، وكيدهم لصاحب الرسالة محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، حيث استهدفوا عرضه وكرامته، وأرادوا أن يلوّثوا سمعته الطاهرة، بالطعن في عفاف زوجه الصدّيقة عائشة رضي الله عنها... ولكنّ الله جلّ ثناؤه كشف خبثهم وتآمرهم، وبرّأ أم المؤمنين من ذلك البهتان العظيم، وجعل ذلك درساً للأجيال وعبرة لأولي البصائر، وعنوان مجد وفخار لزوجاته الطاهرات، ودليل طهر ونزاهة لبيت النبوة الكريم { أُوْلَـٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - وصفُ المرء بالتقى والصلاح جائز إذا لم يدع ذلك إلى العُجب والخيلاء.
2 - إذا حلف الإنسان على ترك فعل الخير فليكفّر عن يمينه وليفعل الخير.
3 - الصفح والعفو عمن أساء من مظاهر الكمال ودلائل الإيمان.
4 - قذف العفائف المحصنات من الكبائر التي توجب سخط الله وغضبه.
5 - الجوارح والحواس تشهد على الإنسان يوم القيامة بما عمل في الدنيا.
6 - الجزاء العادل يلقاه المرء يوم القيامة على ما اقترف من سيِّئ الأعمال.
7 - اتهام زوجات الرسول الطاهرات إيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعدوان على الدين نفسه.
8 - براءة أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها مما نسب إليها أهل الإفك والبهتان.
9 - بيت النبوة بيت الطهر والعفة فلا يتصور أن تخرج منه رائحة الخنا أو الفجور.
10 - السُنّة الإلٰهية قضت بالامتزاج الروحي فالنساء الخبيثات للرجال الخبيثين والعكس بالعكس.