خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ
٩٦
فِيهِ ءَايَٰتٌ بَيِّنَـٰتٌ مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَٰلَمِينَ
٩٧
-آل عمران

تفسير آيات الأحكام

[2] فريضة الحج في الإسلام
التحليل اللفظي
{ أَوَّلَ بَيْتٍ }: المراد به أول بيت للعبادة، فالبيت الحرام أول المساجد على وجه الأرض، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع الناس فقال:
"المسجد الحرام، ثم بيت المقدس" .
قال علي بن أبي طالب: أول بيت وضع للناس للعبادة.
قال الزمخشري: ومعنى (وضُع للناس) أي جُعل متعبداً لهم، فكأنه قال: إن أول متعبد للناس الكعبة.
{ بِبَكَّةَ }: اسم لمكة فتسمى (مكة) و(بكة) من باب الإبدال كقولهم سبد رأسه وسمده إذا حلقه، وطين لازب ولازم، وقيل: (بكة) موضع البيت، و(مكة) الحرم كله.
قال ابن العربي: وإنما سميت بكة لأنها تبكّ أعناق الجبابرة، فلم يقصدها جبار بسوء إلا قصمه الله تعالى.
{ مُبَارَكاً }: البركة معناها الزيادة وكثرة الخير، وهي نوعان: حسية، ومعنوية.
أمّا الحسية: فهي ما ساقه الله تعالى من خيرات الأرض وبركاتها إلى أهل هذه البلاد، تجبى إليهم من أقطار الدنيا كما قال تعالى:
{ { يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا } [القصص: 57].
وأما المعنوية: فهي توجه الناس من مشارق الأرض ومغاربها إلى هذه البلاد المقدسة، يأتون إليها من كل فج عميق لأداء المناسك من الحج والعمرة استجابة لدعوة الخليل
{ { فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِىۤ إِلَيْهِمْ } [إبراهيم: 37].
{ وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ }: هدى مصدر بمعنى (هداية) أي أن هذا البيت العتيق هو مصدر الهداية والنور لجميع الخلق، وقيل: المعنى أنه قبلة للعالمين يهتدون به إلى جهة صلاتهم.
{ مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ }: هو الحجر الذي قام عليه إبراهيم عليه السلام حين ارتفع بناء الكعبة وكان فيه أثر قدميه.
وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد من { مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ } هو موضع قيامه للصلاة والعبادة، يقال: هذا مقامه أي الموضع الذي اختاره للصلاة فيه، وهذا قول (مجاهد).
قال القرطبي: "وفسّر مجاهد مقام إبراهيم بالحرم كله، فذهب إلى أن من آياته الصفا، والمروة، والركن، والمقام".
فيكون المراد بالمقام المسجد الحرام كله.
{ آمِناً }: أي أمن على نفسه وماله. قال القاضي أبو يعلى: لفظه لفظ الخبر، ومعناه الأمر، وتقديره: ومن دخله فأمنوه.
وقد فسّر بعض العلماء الأمن بأن المراد منه الأمن من العذاب في الآخرة وروي في ذلك آثاراً، ولا مانع من إرادة العموم، الأمن في الدنيا، والأمن من عذاب الله.
{ سَبِيلاً }: استطاعةُ السبيل إلى الشيء إمكان الوصول إليه، وقد فسّرت الاستطاعة بملك الزاد والراحلة كما جاء في الحديث الصحيح.
المعنى الإجمالي
بيّن الله عز وجل مكانة هذا البيت (البيت الحرام) وعدّد مزاياه وفضائله فهو أول بيت من بيوت العبادة وضع معبداً للناس بناه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام ليكون مثابة للناس وأمناً، ثم بني المسجد الأقصى بعد ذلك بعدة قرون بناه "سليمان" عليه السلام، فالبيت العتيق هو أول قبلة وأول معبد على وجه الإطلاق، فليس في الأرض موضع بناه الأنبياء أقدم منه وقد عدّد الله من مزايا هذا البيت ما يستحق تفضيله على جميع المساجد وأماكن العبادة، فهو أول المساجد، وهو قبلة الأنبياء، وهو بلد الأمن والاستقرار وفيه الآيات البينات: الصفا، والمروة، وزمزم، والحطيم، والحجر الأسود، ومقام إبراهيم، وفوق ذلك فأنّ الله عز وجل خصّه بخصائص فجعله مركز الهداية والنور وفرض الحج إليه، يأتيه الناس من أقطار الدنيا ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات، أفلا يكفي برهاناً على شرف هذا البيت وأحقيته أن يكون قبلة للمسلمين؟!
سبب النزول
ذكر (القرطبي) في "تفسيره" عن (مجاهد) أنه قال: "تفاخر المسلمون واليهود، فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة، لأنه مهاجر الأنبياء وفي الأرض المقدسة، وقال المسلمون بل الكعبة أفضل فأنزل الله هذه الآية.
"وجه الارتباط بالآيات السابقة"
كانت الآيات من أول سور "آل عمران" إلى هنا في تقرير الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، مع إثبات الوحدانية، وقد تبع ذلك محاجة أهل الكتاب ودحض شبههم، وتفنيد ما استحدثوه في دينهم من بدعٍ وأهواء ما أنزل الله بها من سلطان... أما هذه الآيات من قوله تعالى:
{ كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ } [آل عمران: 93] فقد جاءت لدفع شبهتين من شبه اليهود التي كانوا يثيرونها لإفساد عقائد الناس:
الشبهة الأولى: إنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إنك تدَّعي أنك على ملة إبراهيم، فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانها مع أن ذلك كان حراماً في دين إبراهيم؟ فقد استحللت ما كان محرّماً عليه، فلست بمصدّق له، ولا بموافق له في الدين، وليس لك أن تقول إنك أولى الناس به... فردّ الله عز وجل عليهم بأن كل الطعام كان حلالاً لإسرائيل ولذريته
{ { كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوْرَاةُ... } [آل عمران: 93] الآية.
الشبهة الثانية: أما الشبهة الثانية التي أثارها اليهود فهي حينما حوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرّفة، فقد طعن اليهود في نبوة محمد عليه السلام، واتخذوا من هذا التحويل ذريعة لإنكار رسالته عليه الصلاة والسلام وتشكيك الناس في الإسلام، وقالوا إن "بيت المقدس" أفضل من الكعبة، وأحق بالاستقبال فهو قد وضع قبلها وهو أرض المحشر، وجميع الأنبياء من ذرية إسحاق كانوا يعظمونه ويصلّون إليه، فلو كنت يا محمد على ما كانوا عليه لعظّمتَ ما عظّموا، فرد الله سبحانه شبهتهم بهذه الآية { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً }.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى: الحكمة في اختيار البيت العتيق لفريضة الحج، أن الله تعالى جعله قبلة أهل التوحيد، وأقام بناءه وشيّد دعائمه أبو الأنبياء (إبراهيم) الخليل عليه السلام، وهو أول المساجد على الإطلاق فليس ثمة معبد أقدم منه، وهو يقابل البيت المعمور في السماء، فالبيت العتيق مطاف أهل الأرض، والبيت المعمور مطاف أهل السماء.
اللطيفة الثانية: قال الإمام الفخر: "إن الله أمر الخليل عليه السلام بعمارة هذا البيت، فالآمر هو الله رب العالمين، والمبلّغ هو جبريل عليه السلام فلهذا قيل: ليس في العالم بناء أشرف من الكعبة، فالآمر هو المِلكُ الجليل، والمهندس جبريل، والباني هو الخليل، والتلميذ: إسماعيل عليه السلام".
اللطيفة الثالثة: من مزايا البيت العتيق، ذلك الأمن الذي جعله الله فيه، وذلك ببركة دعاء إبراهيم عليه السلام حيث قال:
{ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً } [البقرة: 126] وقد كان الناس يتخطفون من أطراف الأرض وأهل مكة في أمن واستقرار وقد امتن الله تعالى عليهم بقوله: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [العنكبوت: 67] ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لو ظفرتُ فيه بقاتل الخطاب لما مسسته حتى يخرج منه".
اللطيفة الرابعة: قال العلامة أبو السعود: "وضع (ومن كفر) موضع من لم يحج تأكيداً لوجوبه وتشديداً على تاركه ولذلك قال عليه السلام
"من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً" ، ولقد حازت الآية الكريمة من فنون الاعتبارات، المعربة عن كمال الاعتناء بأمر الحج، والتشديد على تاركه ما لا مزيد عليه، حيث أوثرت صيغة الخبر الدالة على التحقيق، وأبرزت في صورة الجملة الإسمية الدالة على الثبات والاستمرار، على وجه يفيد أنه حق واجب لله سبحانه في ذمم الناس، لا انفكاك لهم عن أدائه والخروج عن عهدته، وسلك بهم مسلك التعميم ثم التخصيص والإبهام ثم التبيين والإجمال...".
الأحكام الشرعية
الحكم الأول: حكم الجاني في الحرم.
اتفق الفقهاء على أنّ من جنى في الحرم فإنه يقتص منه، سواءً كانت الجناية في النفس أم فيما دونها كالأطراف، وعللوا ذلك بأنّ الجاني انتهك حرمة الحرم فلم يعد يعصمه الحرم من القصاص، لأنه هو الذي أحدث فيه فيقتص منه. كما استدلوا بقوله تعالى:
{ { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ } [البقرة: 191] واختلفوا فيمن جنى في غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم هل يقتص منه في الحرم؟ على مذهبين:
1 - مذهب الحنفية والحنابلة: ذهب الإمام (أبو حنيفة) والإمام أحمد رحمهما الله إلى أنّ من اقترف ذنباً واستوجب به حداً ثم لجأ إلى الحرم عصمه لقوله تعالى: { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } فأوجب الله سبحانه الأمن لمن دخله... والآية الكريمة على تقديره (خبرٌ يقصد به الأمر) ويكون المعنى: من دخله فأمّنوه، فهو مثل قوله تعالى:
{ { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجِّ } [البقرة: 197] أي لا يرفثْ ولا يفسقْ ولا يجادل.
وهذا الرأي منقول عن حَبْر هذه الأمة (عبد الله بن عباس) فقد قال ابن عباس: إن جنى في الحِلّ ثم لجأ إلى الحَرَم لا يُقْتَصّ منه لكن لا يُجالس ولا يُبايع ولا يُكلّم حتى يخرج من الحرم فيقتص منه.. وهذا هو نفس مذهب الأحناف فإنهم قالوا إذا جنى ثم لجأ إلى الحرم فإنه لا يؤوي ولا يجالس ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج فيقتص منه.
وقالوا: إن الحرم له حرمة خاصة فمن لجأ إليه احتمى كما قال تعالى: { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } وكما قال تعالى:
{ { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً } [العنكبوت: 67].
ب - مذهب المالكية والشافعية: وذهب (الشافعية والمالكية) إلى أنّ من جنى في غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم فإنه يقتص منه، سواءَ كانت الجناية في النفس أو غيرها. واستدلوا ببضعة أدلة منها: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل بعض المشركين في الحرم، وقال عن (ابن خطل) اقتلوه ولو رأيتموه متعلقاً بأستار الكعبة ومنها ما ورد (إنّ الحرم لا يجير عاصياً، ولا فاراً بخربة ولا فاراً بدم) وأجابوا على قوله تعالى: { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } قالوا هذا كان في الجاهلية لو أنّ إنساناً ارتكب كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتعرض له حتى يخرج من الحرم، وهذا من منن الله عزّ وجل على أهل تلك البلاد فقد جعل لهم الحرم مركز أمن واستقرار.. أما الإسلام فلم يزده إلا شدةً فمن لجأ إليه جانباً أقيم عليه الحد، كيف لا والإسلام دين القوة والحزم؟!
الترجيح: ولعل الرأي الثاني هو الأوجه والأرجح، لأننا لو أخذنا بالرأي الأول -على ما فيه من وجاهة - لأصبح الحرم مركزاً لاجتماع الجُناة والمجرمين، ولاختل الأمن، لأن القاتل يقتل ثم يفر من وطنه ويأتي الحرم، لأنه يعلم أنه يحميه، وبذلك تنتشر الجرائم وتكثر المفاسد والله تعالى أعلم.
الحكم الثاني: حكم حج الفقير والعبد:
الفقير لا يجب عليه الحج لعدم الاستطاعة، ولكنه إذا أدى الحج سقط عنه الفرض بالإجماع، وأما العبد فإنه إذا حج هل تسقط عنه الفريضة؟
قال (أبو حنيفة): يقع حجه نفلاً ويجب عليه أن يحج متى عتق، لأنه يشبه الطفل دون البلوغ فإنه إذا حج ثم بلغ سن الرشد يجب عليه حجة الفريضة، كذلك العبد إذا حج ثم عتق يجب عليه حجة الفريضة.
وقال (الشافعي): يجزيه الحج قياساً على الفقير، واستدل بأنّ الجمعة لا تجب على العبد فإذا صلاها سقط عنه الظهر، فكذلك الحج إذا أداه تسقط عنه حجة الفريضة، وهذا الرأي ضعيف فقد نقل عن النووي وهو من أئمة المذهب الشافعي ما يخالف ذلك حيث قال: إن مذهب الشافعية أن العبد إذا أحرم بالحج ثم عتق قبل الوقوف بعرفة أجزأه ذلك عن حجة الإسلام خلافاً لأبي حنيفة ومالك، أمّا إذا كان العتق بعد فوات الحج فإنه لا يجزئه، ولعل هذا هو الرأي الصحيح عند الشافعية فيكون الخلاف بين المذهبين (شكلياً) لا (جوهرياً) لأنهما متفقان على أن العتق إذا كان بعد أداء ركن الحج وهو الوقوف بعرفة فإنه لا يجزئه ويجب عليه الحج مرة أخرى لأن الأول يقل نافلة.
الحكم الثالث: هل المحْرَمْ بالنسبة للمرأة شرط لوجوب الحج؟
ذهب بعض الفقهاء إلى أن وجود المَحْرم شرط من شروط وجوب الحج وهذا هو مذهب الحنفية، ودليلهم ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً فوق ثلاثٍ إلا مع ذي رحم محرمٍ أو زوج" وهذا عام يشمل كل سفرٍ سواءً كان للحج أو غيره... واستدلوا أيضاً بما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تسافر امرأة إلا ومعها ذو محرم، فقال رجل يا رسول الله إني قد اكتتبت في غزوة كذا، وقد أرادت امرأتي أن تحج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم احجج مع امرأتك" وهذا الحديث يدل على أن المرأة إذا أرادت الحج فليس لها أن تحج إلا مع زوجٍ أو ذي رحم محرم، فقد أمره عليه الصلاة والسلام أن يترك الجهاد وهو فرض وأن يحج مع امرأته، ولولا أن وجود المحرم واجب لما أمره بترك الجهاد والسفر مع زوجه.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنّ حج الفرض لا يجب فيه المحرم بشرط أمن المرأة على نفسها بأن يكون معها عدة من النسوة.. وأما حج النافلة فيجب فيه المحرم، وهم محجوجون بالأدلة التي ذكرناها مما يشير إلى أن الحج لا يجب على المرأة إلا إذا وجدت محرماً، لأن وجود المحرم من شرائط الوجوب، وهذا هو الأرجح.
تنبيه هام: أقول إذا كان الإسلام لم يسمح للمرأة أن تسافر لأداء فريضة الحج إلا مع ذي محرم - والحج أحد أركان الإسلام كما نعلم وهو فريضة على الرجل والمرأة - فكيف يسمح الناس لبناتهم بالسفر إلى بلاد بعيدة، أو إلى بلدان أجنبية بحجة الدراسة وطلب العلم، وليس معهن مَحْرمٌ أو من يرافقهن من أقاربهن؟! إن هذا - بلا شك - يدل على بعد الناس عن التمسك بآداب الإسلام وتعاليمه الرشيدة، بل يدل على فقدان الرجولة والشهامة حتى أضحى أمر سفر النساء وتبرجهن واختلاطهن بالرجال أمراً طبيعياً معتاداً وإنا لله وإنا إليه راجعون!!
الحكم الرابع: ما هي شروط وجوب الحج؟
شروط وجوب الحج خمسة، وهي (1 - الإسلام 2 - العقل 3 - البلوغ، 4 - الاستطاعة، 5 - وجود محرم مع المرأة) وزاد بعضهم أمن الطريق وهو من شروط الأداء لا من شروط الوجوب. أما الشروط الثلاثة الأولى (الإسلام، العقل، البلوغ) فهي ليست خاصة بالحج بل هي شروط لجميع التكاليف الشرعية كالصلاة والصيام... الخ، وأما الشرط الرابع وهو (الاستطاعة) فقد بينته الآية الكريمة بقوله تعالى: { مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } كما بينت السنة النبوية الاستطاعة بأنها ملك (الزاد والراحلة) فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من ملك زاداً وراحلة تبلغه بيت الله ولم يحجّ فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً" وذلك أن الله يقول في كتابه: { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } وروي عن ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله عز وجل: { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } فقال: السبيلُ: الزادُ والراحلة"
). قال الجصاص: وليست الاستطاعة مقصورة على وجود الزاد والراحلة لأن المريض الخائف، والشيخ الذي لا يثبت على الراحلة، والزَّمِنُ وكل من تعذّر عليه الوصول إليه فهو غير مستطيع السبيل إلى الحج وإن كان واجداً للزاد والراحلة، فدل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد بقوله: الاستطاعةُ (الزادُ والراحلة) أن ذلك جميع شرائط الاستطاعة، وإنما أفاد ذلك بطلان قول من يقول إن أمكنه المشي ولم يجد زاداً وراحلة فعليه الحج، فبيّن صلى الله عليه وسلم أن لزوم فرض الحج مخصوص بالركوب دون المشي".
أما الشرط الخامس وهو (وجود المحرم للمرأة) فقد استوفينا شرحه فيما سبق والله أعلم.
الحكم الخامس: هل يجب الحج أكثر من مرة؟
ظاهر الآية الكريمة وهي قوله تعالى: { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ } أن الحج لا يجب إلا مرة واحدة في العمر وهو رأي الجمهور إذ ليس في الآية ما يوجب التكرار وقد أكد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الذي رواه أبو هريرة قال:
"خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا... فقال رجل: كلّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه" .