خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ ٱلْحِكْمَةَ أَنِ ٱشْكُرْ للَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
١٢
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يٰبُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِٱللَّهِ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
١٣
وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ
١٤
وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
١٥
-لقمان

تفسير آيات الأحكام

[1] "طاعة الوالدين" أو "بر الوالدين"
التحليل اللفظي
{ ٱلْحِكْمَةَ }: الإصابة في القول والعمل. وأصل الحكمة: وضع الشيء في موضعه قال تعالى:
{ { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } [البقرة: 269].
قال الرازي: الحكمة عبارة عن التوفيق بين العلم والعمل، فكلّ من أوتي توفيق العلم بالعمل فقد أوتي الحكمة.
وفي "اللسان": أحكم الأمر: أتقنه، ويقال للرجل إذا كان حكيماً: قد أحكمته التجارب، والحكيم: المتقن للأمور. وقد كان لقمان حكيماً على الرأي الراجح ولم يكن نبياً.
{ غَنِيٌّ }: مستغنٍ عن الخلق ليس بحاجة إلى أحد، والعبادُ محتاجون إليه جلّ وعلا
{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ } [فاطر: 15].
{ حَمِيدٌ }: فعيل بمعنى (مفعول) أي محمود يحمده أهل السماء وأهل الأرض.
قال أبو السعود: (حميد) أي حقيق بالحمد وإن لم يحمده أحد، والمعنى أنه تعالى مستحق للحمد سواء شكره الناس أو لم يشكروه.
{ يَعِظُهُ }: العظة والموعظة بمعنى (النصيحة) و(الإرشاد) بالأسلوب الحكيم
{ ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ } [النحل: 125]. وفي حديث العرباض بن سارية (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظةٍ ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب....).
{ وَهْناً }: مصدر وَهَن بمعنى ضعف، والوهن الضعف، وفي التنزيل
{ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي } [مريم: 4].
قال الزجّاج: (وهناً على وهنٍ) أي ضعفاً على ضعف، والمعنى: لزمها بحملها إيّاه أن تضعف مرة بعد مرة، فلا يزل ضعفها يتزايد من حين الحمل إلى الولادة، لأن الحمل كلما عظم ازدادت به ثقلاً وضعفاً. ثم هي في أصل خلقتها ضعيفة البنية والحمل يزيدها ضعفاً.
{ وَفِصَٰلُهُ }: فطامه، والفِصال: يراد منه ترك الإرضاع، وهو لفظ يستعمل في الرضاع خاصة، وأما الفصل فهو أعمّ منه، لأنه يستعمل في الرضاع وغيره، وقيل: هما بمعنى واحد.
قال في "اللسان": والفصال: الفطام، قال تعالى:
{ { وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ ثَلٰثُونَ شَهْراً } [الأحقاف: 15].
وفصلت المرأة ولدها أي فطمته، وفي الحديث (لا رضاع بعد فصال) قال ابن الأثير: أي بعد أن يفصل الولد عن أمه، وبه سُمّي الفصيل من أولاد الإبل، فعيل بمعنى مفعول.
ومعنى الآية: أي فطامه يتم في انقضاء عامين.
{ ٱلْمَصِيرُ }: المرجع والمآب قال تعالى:
{ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } [المائدة: 18] أي الرجوع والمآب، وصِرْت إلى فلان مصيراً، قال الجوهري: وهو شاذ والقياس مَصَار مثل معاش، وفي كلام الفَزَاري لعمه (ابن عنقاء): ما الذي أصارك إلى ما أرى يا عم؟ قال: بخلك بمالك، وبخل غيرك من أمثالك، وصوني أنا وجهي عن مثلهم وتسآلك!
{ جَٰهَدَاكَ }: أي بذلا أقصى ما في وسعهما من أجل حملك على الإشراك بالله، يقال: جاهد أي بذل جهده قال تعالى:
{ { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت: 69] والجهاد المبالغة واستفراغ ما في الوسع والطاقة، ولهذا يسمى المحارب (مجاهداً) لأنه يبذل ماله ونفسه وروحه في سبيل الله. فهو قد بذل كل ما لديه قال الشاعر:

يقولونَ جاهدْ يا جميلُ بغزوةٍ وأيّ جهادٍ غيرهنّ أريد؟

{ مَعْرُوفاً }: أي صاحبهما مصاحبة بالمعروف، والمعروف ما يستحسن من الأفعال.
{ أَنَابَ }: أي رجع إلى ربه وتاب إليه، والمنيب: الراجع إلى ربه، السالك طريق الاستقامة،
{ { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } [سبأ: 9].
قال الطبري: وقوله { وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } يقول: واسلك طريق من تاب من شركه، ورجع إلى الإسلام، واتّبع محمداً صلى الله عليه وسلم.
المعنى الإجمالي
نبّه الباري جلّ وعلا في هذه الآيات الكريمة إلى المقام الرفيع الذي أُعطيه العبد الصالح (لقمان).. وذكّر بحق الوالدين، وحذّر من الشرك، الذي هو أعظم الجرائم عند الله، فالله جلّ ثناؤه يخبرنا عن أمر ذلك العبد الصالح، الذي رزقه الله الحكمة، وآتاه العقل والرشد، فكان ينطق بالحكمة ويعلّمها الناس.
وقد عدّد سبحانه وتعالى بعض هذه النصائح، التي أوصى بها (لقمان الحكيم) ولده، وكان من أهمها وأخطرها، التحذير من (الكفر والإشراك) لأنه نهاية القبح والشناعة
{ { وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ ٱلرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [الحج: 31].
يقول الله جل ثناؤه ما معناه: اذكر يا محمد لقومك. موعظة لقمان لابنه، وهو أشفق الناس عليه، وأحبّهم لديه، حين نبَّهه إلى خطر الشرك بالله، وجحود نعمائه.
وحذّره من ضرره، لأنه ظلم صارخ، وعدوان مبين، لما فيه من وضع الشيء في غير موضعه. فمن سوّى بين الخالق والمخلوق، وبين الإلٰه الرازق، والصنم الذي لا يسمع ولا ينفع ولا يغني عن صاحبه شيئاً. فهو - بلا شك - أحمق الناس. وأبعدهم عن منطق العقل والحكمة. وحريّ به أن يوصف بالظلم، ويجعل في عداد البهائم..
وبعد أن ذكر سبحانه ما أوصى به لقمان ابنه من شكر المنعم، وذكر ما في الشرك من الشناعة. أتبعها سبحانه بوصيةٍ مستقلةٍ عن وصايا لقمان ألا وهي (الوصية بالوالدين) ليشير إلى قبح الشرك، ويؤكد حكمة الرجل الصالح (لقمان) لابنه في نهيه عن الشرك فكأنه تعالى يقول: مع أننا أوصينا الإنسان بوالديه، وأمرناه بالعطف عليهما، والإحسان إليهما، وألزمناه طاعتهما لما تحملا في سبيله من المتاعب والمصاعب، مع كل هذا فقد حذَّرناه من طاعتهما في حالة الشرك والعصيان، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فالوضع السليم بين (الأب وابنه) هي الطاعة والإحسان، وامتثال كمال الأدب مع من ربّاه وتعب في شأن تربيته.
{ وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } [الإسراء: 24] فإذا تغيّر الوضع، وأصبح الأب والأم مدعاةً للشرك، ومصدراً للعصيان، فلا سمع ولا طاعة ولا استجابة لصوت الضلال، مهما بذلا من جهدٍ، ومع كل ذلك فقد ختم الله جلّ ثناؤه الآية الكريمة بوجوب صحبتهما بالمعروف والإحسان إليهما في الدنيا حتى ولو كانا مشركَيْن، لأنّ حقهما على ولدهما عظيم، وكفرُهما بالله لا يستدعي ضياع المتاعب التي تحمّلاها في تربية الولد، فالإحسان إليهما واجب، وطاعتهما في معصية الله ممنوعة، واتباع سبيل المؤمنين الصادقين هو الطريق السوي الذي يوصل إلى رضوان الله تعالى.
سبب النزول
روى الحافظ (ابن كثير) في تفسيره عن (سعد بن أبي وقاص) رضي الله عنه أنه قال: (كنتُ رجلاً براً بأمي، فلما أسلمتُ، قالت يا سعد: ما هذا الدين الذي أراك قد أحدثت! لتَدَعن دينك هذا، أو لا آكل، ولا أشرب، حتى أموت فتعيّر بي، فيقال: يا قاتل أمه، فقلتَ لها: يا أمّهْ لا تفعلي، فإني لا أدع ديني هذا لشيء أبداً)!!
قال: فمكثتْ يوماً وليلة ولم تأكُلْ، فأصبحتْ قد جَهِدت، فمكثتْ يوماً آخر وليلة ولم تأكل، فأصبحتْ وقد جَهِدت، فمكثت يوماً وليلة أخرى لا تأكل، فأصبحت قد اشتدّ جهدها.. فلما رأيتُ ذلك جئتُ إليها فقلت: يا أُمّهْ، تعلمينَ واللَّهِ، لو كانتْ لكِ مائةُ نفسٍ أي (روح) فخرجتْ نَفْساً نَفْساً، ما تركت ديني هذا لشيءٍ أبداً، فإن شئتِ فكلي وإن شئت فدعي.. فلما رأت صلابته في دينه أكلت فأنزل الله عز وجلّ { وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ... } الآية.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى: ذَكَرَ اللَّه سبحانه وتعالى في الوصية (أمر الوالدين) ثمّ نوّه بشأن الأم خاصة، فهو من باب ذكر (الخاص بعد العام) لزيادة العناية والاهتمام، ولبيان أن حق الأم على الولد أعظم من حق الأب، وقوله تعالى: { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ } هذه جملة اعتراضية.
قال الزمخشري: في "الكشّاف": فإن قلت: قوله تعالى: { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ } كيف اعترض به بين المفسَّر والمفسِّر؟ قلتُ: لمّا وصّى بالوالدين ذكر ما تكابده الأم وتعانيه من المشاقّ والمتاعب، في حمله وفصاله هذه المدة المتطاولة، إيجاباً للتوصية بالوالدة خصوصاً وتذكيراً بحقها العظيم مفرداً، ومن ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن سأله: مَنْ أبرّ؟ قال: أمّك، ثم أمّك، ثم أمّك، ثم قال بعد ذلك: أباك.
وروي عن بعض العرب أنه حمل أمه إلى الحج على ظهره، وهو يقول في حدائه: (أحمل أمي وهي الحمّالة، ترضعني الدرّة والعُلاَلة، ولا يُجَازَى والدٌ فِعَاله).
اللطيفة الثانية: حين أمر سبحانه بشكر الوالدين قدّم شكره تعالى على شكرهما فقال { أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } وفي هذا التقديم إشارة إلى أن حقّ الله أعظم من حق الوالدين، وشكره أوجب وألزم، لأنه تعالى هو المنعم الحقيقي، المتفضل على عباده بالنعم، وشكر الوالدين جزء من شكر المنعِم، والله جلّ وعلا هو السبب الحقيقي في الخلق والايجاد، والوالدان سبب ظاهري، فينبغي أن يُقدَّم السبب الحقيقي على السبب الظاهري.
اللطيفة الثالثة: تقديم ما حقّه التأخير يفيد الحصر فقوله تعالى: { إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ } وقوله { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } تقدّم الجار والمجرور على المتعلّق به فأفاد معنى الحصر والمعنى: إليّ المرجع والمآب لا إلى غيري، وإليّ مرجع الخلائق جميعاً لا إلى أحدٍ سواي.
اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: { فِي ٱلدُّنْيَا } ذكرُ الدنيا في الآية الكريمة، فيه إشارة إلى (تهوين) أمر الصحبة، وتقليل مدتها لأنها في أيام قلائل، وشيكة الزوال والانقضاء، فلا يصعب على الإنسان تحمّلها.
ولقد أحسن من قال:

دقّاتُ قلبِ المرءِ قائلةٌ له إنّ الحياةَ دقائقٌ وثواني

اللطيفة الخامسة: قوله تعالى: { وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } في الآية الكريمة إشارة إلى سلوك طريق الصالحين والاقتداء بالسلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين. وفسّره بعضهم بأن المراد بقوله تعالى: { مَنْ أَنَابَ } هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه أي اتّبع سبيله في الإيمان لأن إسلام (سعد) كان بسببه.
والصحيح كما قال الألوسي: أنها عامة تعمُ كل من اتصف بهذا الوصف.
وجوه القراءات
1 - قوله تعالى: { وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ } قراءة الجمهور بسكون الهاء، وقرأ الضحاك وعاصم { وَهَنَاً على وَهَنٍ } بفتح الهاء فيهما.
2 - قوله تعالى: { وَفِصَٰلُهُ فِي عَامَيْنِ } قرأ النخعي والأعمش "وفَصَاله" بفتح الفاء، والجمهور بكسرها، وقرأ الحسن وأبو رجاء (وفَصْله) بفتح الفاء وسكون الصاد من غير ألف.
3 - قوله تعالى:
{ يٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ } [لقمان: 17] قراءة الجمهور بفتح الياء على تقدير (يا بُنَيّا) والاجتزاء بالفتحة عن الألف، وقرأ البزي (يَا بْنِي) بالسكون، وقرأ بعضهم (يا بُنَيِّ) بكسر الياء مع التشديد.
وجوه الإعراب
1 - قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ لُقْمَٰنُ } إذْ ظرف متعلق بفعل مقدر، وتقديره: إذكر إذ قال لقمان، و(لقمان) ممنوع من الصرف للتعريف والألف والنون الزائدتين كعثمان، وعمران، ويجوز أن يكون أعجمياً، فلا ينصرف للعجمة والتعريف.
2 - قوله تعالى: { وَهُوَ يَعِظُهُ } الجملة من المبتدأ والخبر في محل نصب على الحال أي واعظاً له.
3 - قوله تعالى: { وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ } وهناً: حال من الفاعل، والمعنى حملته أُمه ذات وهن أو واهنة، وهذا اختيار أبي حيّان والزمخشري.
والمصدر يأتي (حالاً) بكثرة كما قال ابن مالك:

ومصدرٌ منكّرٌ حالاً يقع بكثرةٍ كبغتةً زيدٌ طلع

واختار ابن الأنباري أن يكون منصوباً بنزع الخافض وتقديره: حملته أمه بوهنٍ، فحذف حرف الجر فاتصل الفعل به فنصبه.
والأرجح الأول لعدم احتياجه للتأويل بخلاف الثاني.
4- قوله تعالى: { أَنِ ٱشْكُرْ لي } قال الزجّاج: هي في موضع نصب على حذف حرف الجر، وتقديره، بأن اشكر، وقيل (أنْ) مفسّرة بمعنى (أيْ) كقوله تعالى:
{ وَٱنطَلَقَ ٱلْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ ٱمْشُواْ } [صۤ: 6] قال النحّاس: والأجود أن تكون مفسّرة.
5- قوله تعالى: { وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً } انتصب (معروفاً) على أنه صفة لمصدر محذوف تقديره: صحاباً معروفاً أو بنزع الخافض والتقدير: وصاحبهما بالمعروف.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول: ما هي مدة الرضاع المحرِّم؟
استدل الفقهاء على أن مدة الرضاع الذي يتعلق به التحريم هو سنتان بهذه الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: { وَفِصَٰلُهُ فِي عَامَيْنِ } فإنّ المراد بالفصال الفطام فتكون السنتان هي تمام مدة الرضاع.
واستدلوا أيضاً بقوله تعالى في سورة البقرة [233]
{ وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ... } الآية. على أن أقصى مدة الرضاع سنتان فقط.
وهذا رأي الجمهور (مالك والشافعي وأحمد) رحمهم الله تعالى.
وذهب الإمام (أبو حنيفة)رحمه الله إلى أن مدة الرضاع المحرِّم سنتان ونصف، ودليله قوله تعالى في سورة الأحقاف [15]:
{ { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ ثَلٰثُونَ شَهْراً... } الآية.
وله في الاستدلال من الآية الكريمة وجهان:
الوجه الأول: أن المراد بالحمل هنا ليس حمل الجنين في بطن أمه، وإنما حمله على اليدين من أجل الإرضاع فكأن الله تعالى يقول: تحمل الأم ولدها بعد الولادة لترضعه مدة ثلاثين شهراً، فتكون المدة المذكورة في الآية الكريمة لشيءٍ واحد وهو الرضاع.
الوجه الثاني: أنّ الله سبحانه وتعالى ذكر في الآية الكريمة أمرين وهما: (الحمل) و(الفِصال)، وأعقبهما بذكر بيان المدة، فتكون هذه المدة لكلٍ من الأمرين استقلالاً ويصبح المعنى على هذا التأويل: حمله ثلاثون شهراً، وفصاله ثلاثون شهراً أي إن المدة لكلٍ منهما (عامان ونصف) وبذلك يثبت أن مدة الرضاع عامان ونصف، وهو كما إذا قال إنسان عليه دين (لفلانٍ وفلان عندي مائة إلى سنة) فتكون السنة هي أجل كلٍ من الدَيْنَيْن، وكذلك هنا تكون الثلاثون شهراً مدة كلٍ من الحمل والرضاع. وهذا الرأي الذي ذهب إليه (أبو حنيفة)رحمه الله لم يوافقه عليه تلميذاه (أبو يوسف) و(الإمام محمد) بل قالوا بمثل قول الجمهور وهو أن مدة الرضاع المحرِّم عامان فقط.
الترجيح: ولعلنا بعد استعراض الأدلة نرجح قول الجمهور، لا سيّما وأنّ تلميذيه قد خالفاه فيما ذهب إليه، ودليل أبي حنيفة وإن كان وجيهاً إلا أنه يحتاج إلى تكلفٍ في التأويل بخلاف دليل الجمهور. والله أعلم.
الحكم الثاني: كم هي مدة الحمل الشرعي؟
أجمع الفقهاء على أن أقل مدة الحمل هي ستة أشهر، وهذا الحكم مستنبط من قوله تعالى:
{ وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ ثَلٰثُونَ شَهْراً } [الأحقاف: 15] ومن قوله تعالى في الآية الأخرى { وَفِصَٰلُهُ فِي عَامَيْنِ } فمن مجموع الآيتين الكريمتين يتبيَّن أن أقل مدة الحمل هي ستة شهور.. قال (ابن العربي) في تفسيره: روي أن امرأة تزوجت فولدت لستة أشهر من يوم تزوجت، فأتي بها عثمان رضي الله عنه فأراد أن يرجمها، فقال (ابن عباس) لعثمان: إنها إن تخاصمْكم بكتاب الله تخصِمْكم، قال الله عز وجل: { وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ ثَلٰثُونَ شَهْراً } [الأحقاف: 15] وقال: { وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ... } [البقرة: 233] فالحمل ستة أشهر، والفصال أربع وعشرون شهراً، فخلّى عثمان رضي الله عنه سبيلها.
وفي رواية أنّ (علي بن أبي طالب) قال له ذلك.
قال ابن العربي: وهو استنباط بديع.
الحكم الثالث: هل يقتص من الوالد بجنايته على الولد؟
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الولد لا يستحق القوَد على أحد والديه بجناية أحدهما عليه، ولا يقتص منهما بسبب الولد، كما لا يحدّ إذا قذفه أحدهما ولا يحبس له بدين عليه. ودليلهم أن الله سبحانه وتعالى قد أمر بالصحبة لهما بالمعروف فقال { وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً } وليس من المعروف أن يقتص من الوالد للولد، ولا أن يحبس في دينه، ولا أن يحدّ إذا قذفه لأن ذلك كلّه مما يتنافى مع صحبتهما بالمعروف. ولأنهما كانا سبباً في حياته، فلا يصح أن يكون الولد سبباً في إهلاك والديه. وقد جاء في الحديث ما يؤيد هذا حيث قال صلى الله عليه وسلم
"لا يقاد للولد من والده" .
الحكم الرابع: هل تلزم طاعة الوالدين في الأمور المحظورة؟
قال العلامة القرطبي: (إن طاعة الأبوين لا تراعى في ارتكاب كبيرة، ولا في ترك فريضة وتلزم طاعتهما في المباحات، ونقل عن (الحسن) أنه قال: إن منعته أُمّه من شهود صلاة العشاء شفقةً فلا يطعها).
ثم قال: والآية دليل على صلة الأبوين الكافرين بما أمكن من المال إن كانا فقيرين، وإلانة القول والدعاء إلى الإسلام برفق. وقد قالت أسماء بنت أبي بكر الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم وقد قدمت عليها أمها من الرضاعة فقالت:
"يا رسول الله إن أمي قدمت عليَّ وهي راغبة أفأصلها؟ قال: نعم" .
وهذه الأحكام استنبطها العلماء من قوله تعالى: { وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا } فكما تحرم طاعة الوالدين في الشرك تحرم في كل معصية، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وهذا المعنى قد سَنّه الخليفة الراشد (أبو بكر) رضي الله عنه في خطبته الأولى حين تولى الخلافة على المؤمنين. فكان فيما قال:
(أما بعد. أيها الناس: إني قَدْ وُلّيتُ عليكم ولستُ بخيركم، فإن أحسنتُ فأعينوني وإن أسأتُ فقوِّموني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيتُه فلا طاعة لي عليكم).
الحكم الخامس: هل يصح سلوك طريق غير المؤمنين؟
ظاهر قوله تعالى: { وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ... } وجوب الاقتداء بالسلف الصالح وسلوك طريق المؤمنين، وتحريم السير في اتجاه يخالف اتجاههم كطريق المنافقين والكافرين. وقد صرّح بهذا المعنى في قوله تعالى:
{ وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } [النساء: 115]. فلا بدّ من الانضواء تحت رأية أَهل التوحيد والإيمان واتباع سبيلهم، فالخير كله في الاقتداء بهم، والسير على منوالهم. ولقد أحسن من قال:

فكلّ خيرٍ في اتباع من سَلَف وكلّ شرٍّ في ابتداعِ من خَلَف

ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - الحكمة هبة إلٰهية لا تنال إلا بطريق التقوى والعمل الصالح.
2 - شكر النعمة واجب على المرء. ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله.
3 - الشرك من أعظم الذنوب، وأكبر الجرائم عند الله وهو محبط للعمل.
4 - طاعة الوالدين من طاعة الله، وبرهما مقرون بعبادة الله تعالى.
5 - حق الأم على ولدها أعظم من حق الأب لأنّ أتعابها عليها أكثر.
6 - لا تجوز الطاعة في المعصية. إنما الطاعة في المعروف كما بينَّه عليه السلام.
حكمة التشريع
أوصى الله تعالى بالوالدين إحساناً، وأمر ببرّهما وطاعتهما والإحسان إليهما، وخصّ (الأم) بمزيد من العناية والاهتمام، فجعل حقّها أعظم من حق الأب، لما تحملته من شدائد وأهوال تجاه طفلها الوليد، ولما قاسته من آلام في سبيل تربيته وحياته. فمن أحق بالعناية والرعاية من الأم؟! الأم التي حنت عليه فغذته بلَبَانها، وغمرته بحنانها، وآثرته على نفسها وراحتها فشقيت من أجل سعادته، وتعبت من أجل راحته، وتحمّلت الأثقال والآلام في سبيل أن ترى وليدها زهرة يانعة، تعيش بين أزهار الربيع، فكم من ليلة سهرت من أجل راحته، لتطرد عنه شبح الخوف، أو تزيل عنه ألم المرض، وكم من ساعة قضتها بين جدران البيت تحمله على يديها، متعبة مثقلة لتواسيه في وقت شدته ومحنته... فهل يليق بعد كل هذا أن يسلك طريق العقوق، أو يجنح إلى الإساءة والعصيان؟!
فحق الأم على ولدها عظيم، وفضلها عليه كبير وجسيم، إذ هي السبب المباشر في حياة هذا الطفل بعد الله عزّ وجلّ، فلولا رعايتها وحنانها، ولولا تحملها المتاعب والآلام، لَمَا تَربّى وليد، ولا عاش إنسان!!
وقد أمر الله تعالى بشكر الوالدين، وطاعتهما وبرّهما حتى ولو كانا (مُشْركَيْن)، ولكنّه جلّ ثناؤه حذّر من اتّباعهما ومسايرتهما في أمر الكفر والإشراك { وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا } إذْ لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الله عز وجلّ.. فطاعتهما مشروطة بطاعة الله، وفي الحدود التي يقرّها الشرع الحنيف، ولا يكون فيها تضييع لحق الخالق، أو حقّ المخلوق، فشكرُ الوالدين من شكر الله، وطاعتهما - فيما ليس فيه معصية - من طاعة الله!! وصدق الله حيث يقول:
{ { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَٰلِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ ثَلٰثُونَ شَهْراً... } [الأحقاف: 15].