خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَـكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَٱدْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي ٱلنَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَٱللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ ٱلْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَٱسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذٰلِكُمْ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيماً
٥٣
-الأحزاب

تفسير آيات الأحكام

[5] من آداب الوليمة
التحليل اللفظي
{ يُؤْذَنَ لَكُمْ }: أي تُدْعوا إلى تناول الطعام، والأصل أن يتعدى بـ (في) تقول: أذنت لك في الدخول، ولا تقول أذنت لك إلى الدخول، ولكنّ اللفظ لما ضُمّن معنى (الدعوة) عُدّي بـ (إلى) بدل (في) ومعنى الآية: لا تدخلوا بيوت النبي إلاّ إذا دعيتم إلى تناول الطعام.
قال الزمخشري: (إلا أن يُؤذن) في معنى الظرف تقديره: وقت أن يُؤذن لكم.
{ نَٰظِرِينَ إِنَاهُ }: أي منتظرين نضجه، قال في اللسان: وإنى الشيء: بلوغُه وإدراكه، وفي التنزيل: { غَيْرَ نَٰظِرِينَ إِنَاهُ } أي غير منتظرين نضجه وإدراكه وبلوغه، تقول: أنى يأني إذا نضِج إنىً أي نضجاً، والإنى بكسر الهمزة والقصر: النضجُ. فهو على هذا مصدر مضاف إلى الضمير.
ويرى بعض المفسّرين أنه ظرف بمعنى (حين) وهو مقلوب (آن) بمعنى (حان) فعلى الأول يكون المعنى: غير منتظرين نضجه، وعلى الثاني يكون المعنى: غير منتظرين وقته أي وقت إدراكه ونضجه، وهما متقاربان.
{ فَٱنْتَشِرُواْ }: أي اخرجوا وتفرقوا، يقال انتشر القوم: أي تفرقوا ومنه قوله تعالى:
{ فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } [الجمعة: 10] أي تفرقوا في الأرض لطلب الرزق والكسب.
{ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ }: معنى الاستئناس: طلب الأنس بالحديث لأن السين والتاء للطلب تقول: استأنَسَ بالحديث: أي طلب الأنس والطمأنينة والسرور به. وتقول: ما بالدار أنيس، أي ليس بها أحد يؤانسك أو يسليّك، وقد كان من عادة الناس أنهم يجلسون بعد الأكل فيتحدثون طويلاً، ويأنسون بحديث بعضهم بعضاً فعلّمهم الله الأدب، وهو أن يتفرقوا بعد تناول الطعام، ولا يثقلوا على أهل البيت، لأن المكث بعده فيه نوع من الإثقال.
{ إِنَّ ذَٰلِكُمْ }: اسم الإشارة راجع إلى الدخول بغير إذن، والمكث عقب الطعام للاستئناس بالحديث، وقيل: هو راجع إلى الأخير خاصة، ومعنى الآية: إن انتظاركم واستئناسكم يؤذي النبي.
{ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ }: أي يستحيي من إخراجكم من بيته، والله لا يستحيي من بيان الحق فهو على حذف مضاف.
{ مَتَٰعاً }: المتاع: الغرض والحاجة كالماعون وغيره، وهو في اللغة: ما يستمتع به حسياً كان كالثوب والقدر والماعون، أو معنوياً كمعرفة الأحكام الشرعية والسؤال عنها، وقد يأتي المتاع بمعنى التمتع بالشيء والانتفاع به كما قال تعالى:
{ وَمَا ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَاعُ ٱلْغُرُورِ } [الحديد: 20] وفي الحديث الشريف: "الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة" .
{ حِجَابٍ }: أي ساتر يستره عن النظر، قال في "اللسان": حجبَ الشيءَ يحجبُه أي ستره، وقد احتجب وتحجّب إذا اكتنّ من وراء حجاب، وامرأة محجوبة قد سترت بستر، والحجاب: اسم ما احتجب به، وكل ما حال بين شيئين فهو حجاب. قال تعالى: { وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } [فصلت: 5].
ومعنى الآية: إذا سألتموهن شيئاً مما يستمتع به وينتفع فاسألوهن من وراء ستر وحجاب.
{ أَطْهَرُ }: أي أسلم وأنقى، أفعل تفضيل من الطهارة بمعنى النزاهة والنقاء، والمعنى: سؤالكم للنساء من وراء حجاب أكثر نقاءً وتنزيهاً لقلوبكم وقلوبهن من الهواجس والخواطر التي تتولد فيها عند اختلاط الرجال بالنساء، وأبعد عن الريبة وسوء الظنّ.
المعنى الإجمالي
أمر الله سبحانه عباده المؤمنين أن يتأدبوا بالآداب الإسلامية الكريمة، ويتمسكوا بما شرعه لهم من التوجيهات والإرشادات الحكيمة، التي بها صلاح دينهم ودنياهم، وخاصة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فمقام النبوّة لا يعادله مقام، وإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم - سواء كان بالقول أو الفعل - من أعظم الكبائر عند الله، وقد ألزمنا الله سبحانه بتلك الآداب الفاضلة، وأمرنا بالتمسك بها، حتى يتحقق المجتمع الفاضل الذي ينشده الإسلام، وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أمرين هامين:
الأول: الأدب في أمر الطعام والاستئذان ودخول البيوت (أدب الوليمة).
الثاني: الأدب في مخاطبة النساء، وعدم الاختلاط بهن أو الخلوة أدب (الحجاب الشرعي).
يقول الله جل ثناؤه ما معناه: يا أيها المؤمنون لا تدخلوا بيوت النبي إلا بعد الإذن، ولا تترقبوا أوقات الطعام فتدخلوا عليه فيها، أو تنتظروا أن يحين وقت نضج الطعام فتستأذنوا عليه في الدخول، إلا إذا كنتم مدعوَّين إلى وليمة قد أعدّها لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك إذا دعيتم وطعمتم فاخرجوا وتفرقوا ولا تثقلوا على الرسول الكريم بالجلوس بعد الطعام، فإن حياءه يمنعه أن يأمركم بالانصراف، أو يظهر لكم الامتعاض من جلوسكم في بيته، فهو ذو الخلق الرفيع، والقلب الرحيم، لا يصدر منه إلا ما يسرّكم، فلا يليق بكم أن تثقلوا عليه، أو تؤذوه في نفسه أو أهله، وإذا أردتم حاجةً من أزواجه الطاهرات، فاسألوهن من وراء حاجز وحجاب، لأن ذلك أزكى لقلوبكم وقلوبهن، وأنفى للريبة، وأبعد عن التهمة، وأطهر لبيت النبوة.
ولا يليق بكم أيها المؤمنون أن تؤذوا رسولكم، الذي هداكم الله به وأخرجكم من الظلمات إلى النور، فهو كالوالد لكم، وأزواجه كالأمهات لكم، وهل يصح لمؤمن أن يتزوج أمه؟ فلا تؤذوه في حياته ولا بعد مماته، ولا تتزوجوا بأزواجه من بعده أبداً، فإن إيذاء الرسول، ونكاح أزواجه من بعد وفاته، ذنب عظيم عند الله لا يغفره الله لكم أبداً، وهو عند الله بالغ الذنب والعقوبة.
سبب النزول
تعرضت الآية الكريمة لأمرين هامين هما "آداب الدعوة" و"مشروعية الحجاب" ولكل منهما سبب نزول.
أما الأول: فقد روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بأهله فصنعت (أم سليم) أمي حَيْساً فجعلته في تَوْر وقالت يا أنس اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل بعثت به إليك أمي، وهي تقرئك السلام وتقول لك: إن هذا منا قليل يا رسول الله!!
قال: فذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت له: إن أمي تقرئك السلام وتقول لك: إن هذا لك منا قليل يا رسول الله، فقال: ضعه ثم قال: اذهب فادع لي فلاناً وفلاناً، ومن لقيتَ وسمَّى رجالاً، فدعوت من سَمَّى ومن لقيتُ، قيل لأنس: عدد كَمْ كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمائة، قال أنس: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أنس هات التور، قال فدخلوا حتى امتلأت الصُفَّة والحجرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليتحلق عشرة عشرة وليأكل كل إنسان مما يليه، فأكلوا حتى شبعوا، قال: فخرجت طائفة، ودخلت طائفة حتى أكلوا كلهم، فقال لي يا أنس: ارفع، فما أدري حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت؟ وجلس منهم طوائف يتحدثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس وزوجُه موليَّة وجهها إلى الحائط فثقلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فسلم على نسائه ثم رجع فلما، رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجع ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه فابتَدرُوا الباب وخرجوا كلهم، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أرخى الستر ودخل وأنا جالس في الحُجْرة فلم يلبث إلا يسيراً حتى خرج عليّ وأنزل الله هذه الآية: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ } فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها على الناس.
ثانياً: وأما بالنسبة لمشروعية الحجاب فقد كان سبب النزول ما روي في الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب: { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَٰعاً فَٱسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } الآية. وهذه إحدى الموافقات الثلاثة التي نزل القرآن الكريم فيها موافقاً لرأي عمر رضي الله عنه.
وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "وافقت ربي في ثلاث: قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟ فنزل:
{ وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [البقرة: 125] وفي الحجاب فنزلت آية الحجاب واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة فقلت: عسى ربه إن طلقكُنَّ أن يُبْدِلَه أزواجاً خيراً منكن فنزلت كذلك".
وقد ذكرت روايات أخرى في أسباب النزول ولكنها كما قال ابن العربي كلُّها ضعيفة واهية ما عدا الذي ذكرنا.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى: قوله تعالى: { بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ } إضافة البيوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم إضافة تشريف، مثل
{ { نَاقَةَ ٱللَّهِ } [الشمس: 13] و(بيت الله) الإضافة فيها للتكريم والتشريف فلبيوت النبي صلى الله عليه وسلم من الحرمة ما ليس لغيرها من البيوت، وهذه الأحكام المذكورة هنا خاصة ببيوت النبي صلى الله عليه وسلم تكريماً له عليه السلام وتشريفاً.
اللطيفة الثانية: قوله تعالى: { إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ } في الكلام باء محذوفة تسمّى (باء المصاحبة) أي إلاّ بأن يؤذن لكم. وتضمين (الإذن) معنى (الدعوة) للإشعار بأنه لا ينبغي أن يدخلوا على الطعام بغير دعوة وإن وجد صريح الإذن بالدخول، حتى لا يكون الإنسان (طفيلياً) يحضر الوليمة بدون سابق دعوة.
وممّا يدل على هذا التضمين قوله تعالى بعدها: { وَلَـكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَٱدْخُلُواْ } فإنها صريحة في أن المراد بالإذن (الدعوة) فتنبه لهذا السّر فإنه دقيق.
اللطيفة الثالثة: قوله تعالى: { وَلَـكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَٱدْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ } قال الإمام الرازي: "فيه لطيفة وهي أن في العادة إذا قيل لمن كان يعتاد دخول دار من غير إذن: لا تدخلها إلاّ بإذن، يتأذى وينقطع بحيث لا يدخلها أصلاً ولا بالدعاء، فقال: لا تفعلوا مثل ما يفعله المستنكفون، بل كونوا طائعين سامعين، إذا قيل لكم: لا تدخلوا فلا تدخلوا، وإذا قيل لكم ادخلوا فادخلوا". وهذا معنى لطيف.
اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: { وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } فيه إشارة لطيفة إلى أن المكث بعد الطعام غير مرغوب فيه على الإطلاق، فالأمر أمر وليمة وقد انتهت، ولم يبق إلاّ أن يفرغ أهل البيت لبعض شأنهم، والبقاء بعد ذلك فيه نوع من الاثقال غير محمود.
قال بعض العلماء: هذه الآية نزلت في الثقلاء، وقرأها بعضهم فقال: "هذا أدب من الله تعالى أدَّب به الثقلاء" ويروى عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما: "حسبُك في الثقلاء أنّ الشرع لم يحتملهم".
وأنشد بعض الفضلاء:

وثقيلٍ أشدّ من ثِقَل المو ت ومن شدّة العذابِ الأليم
لو عصت ربَّها الجحيمُ لما كا ن سواهُ عقوبةً للجحيم

وقال آخر:

ربّما يثقُل الجليس ولو كا ن خفيفاً في كِفّة الميزان
ولقد قلتُ حين وتّد في البيـ ـتِ ثقيل أربى على سهلان
كيف لم تحمل الأمانة أرضٌ حملت فوقها أبا سفيان؟!

اللطيفة الخامسة: قوله تعالى: { فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَٱللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ ٱلْحَقِّ } الاستحياء لا يكون من الذات، وإنما يكون من الأفعال، بدليل قوله تعالى: { وَٱللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ ٱلْحَقِّ } ولم يقل: والله لا يستحيي منكم والكلام فيه حذف تقديره: فيستحيي من إخراجكم أو من أمركم بالانصراف والله لا يستحيي من بيان الحق، وأطلق استحياء الله وأراد منه عدم السكوت عن بيانه، فسمّي السكوت عليه استحياءً على (طريق المشاكلة) لوقوعه بجانب استحياء الرسول على حد قول القائل:

قالوا اقترحْ شيئاً نُجد لك طبخه قلتُ اطبخوا لي جُبّة وقميصاً

اللطيفة السادسة: قوله تعالى: { ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } فيه إشارة دقيقة إلى ما بين العين والقلب من صلة وثيقة، فالعين طريق الهوى والنظرة بريد الشهوة، فإذا لم تر العين لا يشتهي القلب، وكما قال بعض الأدباء:

وما الحبّ إلاّ نظرة إثر نظرةٍ تزيد نمواً إن تزدْه لَجَاجاً

فالقلب عند عدم الرؤية أطهر، وعدم الفتنة حينئذٍ أظهر.
اللطيفة السابعة: قوله تعالى: { إِنَّ ذٰلِكُمْ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيماً } الإشارة في قوله { ذٰلِكُمْ } يعود إلى ما ذُكر من إيذائه عليه الصلاة والسلام، ونكاح أزواجه من بعده، وقد جاء التعبير بلفظ { ذٰلِكُمْ } ولم يأت بلفظ (هذا) للتهويل والتعظيم.
قال أبو السعود: "وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الشرّ والفساد. وقوله: { كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيماً } أي أمراً عظيماً، وخطباً هائلاً، لا يُقادر قدرُه، وفيه من تعظيمه تعالى لشأن رسوله صلى الله عليه وسلم، وإيجاب حرمته حيّاً وميتاً ما لا يخفى، ولذلك بالغ تعالى في الوعيد".
وجوه القراءات
أولاً: قرأ الجمهور (غيرَ ناظرين) بفتح راء (غيرَ) نصباً على الحال، وقرأ (ابن أبي عبلة) بالكسر صفة لطعام، قال الزمخشري وليس بالوجه لأنه جرى على غير من هوَ له، فمن حق ضمير ما هو له أن يبرز إلى اللفظ فيقال: غير ناظرين إناه أنتم، قال أبو حيان: وحذف هذا الضمير جائز عند الكوفيّين إذا لم يلبس.
ثانياً: قرأ الجمهور (إناه) مفرداً، وقرأ الأعمش (إناءه) بمدّة بعد النون، وعلى الأول يكون المعنى: غير ناظرين نضجه، وعلى الثاني يكون المعنى غير ناظرين وقته أو حِينه والله أعلم.
وجوه الإعراب
أولاً: قوله تعالى: { إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ } الآية.
الاستثناء هنا استثناء مفرّغ من عموم الأحوال، أي لا تدخلوها في حال من الأحوال إلاّ حال كونكم مصحوبين بالإذن لكم، وتكون (باء المصاحبة) مقدرة في الكلام.
وذهب الزمخشري: إلى عدم تقدير الباء، وإلى أن الاستثناء مفرغ من عموم الأوقات، والمعنى: لا تدخلوها في وقت من الأوقات إلاّ وقت الإذن.
وقد ردّ (أبو حيان) هذا فقال: وهذا ليس بصحيح، وقد نصّوا على أنّ (أنْ) المصدرية لا تكون في معنى الظرف، تقول: أجيئك صياح الديك، وقدوم الحاج، ولا يجوز أجيئك أن يصيح الديك، ولا أن يقدم الحاج.
والمسألة خلافية في خلافيات النحاة: والأشهر أنه لا يجوز، وأجاز الأخفش والكسائي ذلك في الحال، فتقول: ما ذهب القوم إلا يوم الجمعة راحلين عنا.
ثانياً: قوله تعالى: { غَيْرَ نَٰظِرِينَ إِنَاهُ } الآية.
غيرَ، منصوب على الحال من الواو في { تَدْخُلُواْ } وإن أُجري وصفاً لطعامٍ { غَيْرَ نَٰظِرِينَ } على القراءة الثانية وجب إبراز الضمير، فكان ينبغي أن يقال: إلى طعامٍ غير ناظرين إناه أنتم، وقد بينا ما فيه عند ذكر وجوه القراءات.
ثالثاً: قوله تعالى: { وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } الآية.
{ مُسْتَأْنِسِينَ } عطف على { نَٰظِرِينَ } و(لا) لتأكيد النفي، وجوّز بعض المفسّرين أن تكون (لا) بمعنى غير معطوفة على غير ناظرين إناه ويصبح المعنى: غير ناظرين إناه، وغير مستأنسين لحديث.
ويرى البعض أن { مُسْتَأْنِسِينَ } حال من فاعل فعل محذوف دلّ عليه الكلام، أي ولا تمكثوا مستأنسين لحديث، واللام في قوله (لحديث) لام التعليل أي لأجل استماع الحديث، أو هي لام التقوية.
رابعاً: قوله تعالى: { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ } الآية.
أنْ وما بعدها في تأويل مصدر اسم كان، والتقدير: وما كان لكم إيذاء رسول الله، وكذلك قوله تعالى: { وَلاَ أَن تَنكِحُوۤاْ } لأنه عطف عليه، أفاده ابن الأنباري.
خامساً: قوله تعالى: { إِنَّ ذٰلِكُمْ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيماً } اسم الإشارة اسم (إنَّ) وجملة { كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيماً } خبرها والله أعلم.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول: هل يجوز تناول الطعام بدون دعوة؟
اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز دخول البيوت إلا بإذن. ولا يجوز تناول طعام الإنسان إلا بإذن صريح أو ضمني، لقوله عليه السلام:
"لا يحل مال أمرئ مسلم إلا عن طيب نفسه" .
وقد دلت الآية الكريمة على حرمة دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد الإذن، وعلى حرمة (التطفل) وهو أن يحضر إلى الوليمة بدون دعوة، وفاعله يسمى بـ (الطفيلي)، والحكم عام في جميع البيوت، فلا يجوز لإنسان أن يدخل بيت أحد بدون إذنه، ولا أن يتناول الطعام بدون رضى صاحبه، وهذا أدب رفيع من الآداب الاجتماعية التي أرشد إليها الإسلام.
قال ابن عباس: كان ناس يتحيَّنون طعامه عليه الصلاة والسلام، فيدخلون عليه قبل الطعام، وينتظرون إلى أن يدرك، ثمّ يأكلون ولا يخرجون، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأذى بهم فنزلت هذه الآية.
وقال ابن كثيررحمه الله : "حظر الله تعالى على المؤمنين أن يدخلوا منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذن، كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام، حتى غار الله لهذه الأمة فأمرهم بذلك، وذلك من إكرامه تعالى لهذه الأمة، ومعنى الآية: أي لا ترقبوا الطعام إذا طبخ، حتى إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول، فإنّ هذا مما يكرهه الله ويذمه.. ثمّ قال: وهذا دليل على تحريم التطفل، وهو الذي تسميه العرب "الضيفن".
الحكم الثاني: هل الجلوس بعد تناول طعام الوليمة حرام؟
دلّ قوله تعالى: { فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ } على ضرورة الخروج بعد تناول الطعام، وهذا من الآداب الإسلامية التي أدّب الله بها المؤمنين، فالمكث والجلوس بعد تناول الطعام ليس بحرام، ولكنّه مخالف لآداب الإسلام، لما فيه من الإثقال على أهل المنزل سيما إذا كانت الدار ليس فيها سوى بيت واحد، اللهمَّ إلا إذا كان الجلوس بإذن صاحب الدار أو أمره، أو كان جلوساً يسيراً تعارفه الناس، لا يصل إلى حدّ الإثقال المذموم.
ومع ذلك فالأفضل الخروج، ولهذا جاء التعبير بالفاء التي تفيد الترتيب والتعقيب { فَٱنْتَشِرُواْ }.
فالمكث بعد الطعام غير مرغوب فيه على الإطلاق ولم يبق إلا أن يفرغ أهل البيت لبعض شأنهم، والبقاء بعد ذلك نوع من الإثقال غير محمود، يتنافى مع الأدب الرفيع، والذوق السليم.
الحكم الثالث: هل الأمر بالحجاب خاص بأزواج النبي أم هو عام؟
الآيات الكريمة وردت في شأن بيوت النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، تعظيماً لرسول الله، وتكريماً لشأنه، ولكنّ الأحكام التي فيها عامّة تعمُّ جميع المؤمنين، لأنها آداب اجتماعية، وإرشادات إلٰهية، يستوي فيها جميع الناس، فالأمر بعدم الاختلاط بالنساء، وبسؤالهن من وراء حجاب، ليس قاصراً على أزواج الرسول، ولكنه عام يشمل جميع نساء المؤمنين، فإذا كان نساء الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجوز الاختلاط بهن، ولا النظر إليهن، مع أنهن (أمهات المؤمنين) يحرم الزواج بهن، ولا يجوز سؤالهن إلا من وراء حجاب، فلا شكَّ أن الاختلاط بغيرهن من النساء، أو التحدث إليهن بدون حجاب، يكون حراماً من باب أولى، لأن الفتنة بالنساء متحققة.
ثمّ إنّ أمر الحجاب ليس خاصاً بأزواج الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هو عام لجميع نساء المؤمنين، بدليل قوله تعالى في آخر السورة
{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ } [الأحزاب: 59].
فهل خرجت مؤمنة من هذا الخطاب؟ وهل أمر الحجاب خاص بنساء الرسول حتى يزعم بعض المضِلّين، أن الحجاب مفروض على نساء الرسول صلى الله عليه وسلم خاصة دون سائر النساء؟!
وسنتحدث بالتفصيل إن شاء الله عن هذا الموضوع عند بحث (الحجاب الشرعي) ونبيّن تلك المزاعم الواهية التي احتج بها بعض المتحللين، ونبطلها بالحجج الدامغة، فارجع إليها هناك والله يتولاّك.
الحكم الرابع: هل الطعام المقدّم للضيف على وجه التمليك أم الإباحة؟
أشارت الآية الكريمة وهي قوله تعالى: { فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ } إلى أنّ الطعام الذي يقدّم للضيف لا يكون على وجه التمليك، وإنما هو على وجه الإباحة، فلو أراد الضيف أن يحمل معه الطعام إلى بيته لا يجوز له ذلك لأن المضيف إنما أباح له الأكل فقط دون التملك له أو أخذه أو إعطائه لأحد.
قال العلامة القرطبي: "في هذه الآية دليل على أن الضيف يأكل على ملك المضيف، لا على ملك نفسه لأنه تعالى قال: { فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ } فلم يجعل له أكثر من الأكل، ولا أضاف إليه سواه، وبقي الملك على أصله".
الحكم الخامس: هل زال النكاح عن أمهات المؤمنين بموت النبي صلى الله عليه وسلم؟
قال القرطبي: في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن": اختلف العلماء في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، هل بقين أزواجاً أم زال النكاح بالموت، وإذا زال النكاح بالموت فهل عليهن عدة أم لا؟
فقيل: عليهن العدة، لأنه تُوفي عنهن، والعدة عبادة.
وقيل: لا عدة عليهن، لأنها مدة تربص لا ينتظر بها الإباحة.
قال: والقول الثاني هو الصحيح لقوله عليه السلام:
"ما تركتُ بعد نفقة عيالي" وروي (أهلي) وهذا اسم خاص بالزوجية، فأبقى عليهن النفقة والسكنى مدة حياتهن لكونهن نساءه، وحرمن على غيره، وهذا هو معنى بقاء النكاح. وإنما جعل الموت في حقه عليه السلام بمنزلة المغيب في حق غيره، لكونهن أزواجاً له في الآخرة قطعاً، بخلاف سائر الناس، لأن الرجل لا يعلم كونه مع أهله في دار واحدة، فربما كان أحدهما في الجنة، والآخر في النار، فبهذا انقطع السبب في حق الخلق، وبقي في حق النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال عليه السلام: "كلُّ سببٍ ونسبٍ ينقطع، إلا سببي ونسبي فإنه باق إلى يوم القيامة" .
فأما زوجاته عليه السلام اللاتي فارقهن في حياته مثل الكَلْبيّة وغيرها، فهل كان يحل لغيره نكاحهن؟ فيه خلاف، والصحيح جواز ذلك، لما روي أن الكلبية التي فارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها (عكرمة بن أبي جهل) على ما تقدم، وقيل: إن الذي تزوجها (الأشعث بن قيس الكندي).
قال القاضي أبو الطيب: الذي تزوجها (مهاجر بن أبي أمية) ولم ينكر ذلك أحد، فدلّ على أنه إجماع.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1- النهي عن دخول بيوت الرسول صلى الله عليه وسلم بغير إذن، وبدون سابق دعوة.
2- لا ينبغي الحضور قبل نضج الطعام، ولا المكث بعد تناول طعام الوليمة.
3- وجوب احترام الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، وأمتثال أوامره وتقديم طاعته على كل شيء.
4- حرمة إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالأقوال أو الأفعال، والتأدب معه في جميع الأحوال.
5- حرمة نكاح أمهات المؤمنين من بعد وفاته لأنهن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
6- خلق الرسول الرفيع يمنعه من أمر الناس بالخروج من منزله فينبغي عدم الإثقال عليه.
7- نساء الرسول صلى الله عليه وسلم هنّ القدوة والأسوة الحسنة لسائر النساء فينبغي مخاطبتهن من وراء حجاب.
8- في عدم الاختلاط بالنساء صفاء النفس، وسلامة القلب، ونقاء السريرة، والبعد عن مظان التهم.
9- الآداب التي أرشد إليها القرآن ينبغي التمسك بها وتطبيقها تطبيقاً كاملاً.
خاتمة البحث:
حكمة التشريع
حرّم الله تعالى على المؤمنين دخول بيوت النبيّ صلى الله عليه وسلم بدون إذن، تكريماً لرسول الله عليه السلام وتعظيماً لشأنه، ومنع الناس من الإثقال على رسول الله صلى الله عليه وسلم سواءً بالدخول إلى بيوته دون سابق دعوة، أو المكث فيه بعد تناول طعام الوليمة لأن في ذلك إثقالاً على الرسول الكريم، وإيذاءً له، والتطفلُ والإثقال على أهل الدار ليس من أوصاف المؤمنين، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحياء، وكان - كما تقول السيدة عائشة - أشدّ حياءً من العذراء في خدرها، ولم يكن من خلقة الكريم أن يجابه أحداً بما يكره، مهما أصابه الأذى والضرر، ولا من عادته أن يأمر الزائر بالانصراف مهما طال المكث والبقاء، لأنّ هذا لا يتفق مع خُلُق الداعية، فكيف بخلق النبوة وأوصاف سيد المرسلين!!
{ { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } [آل عمران: 159]
وكان بعض الناس - ممن لم تتهذب أخلاقهم بعد - يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون قبل أن يدرك الطعام، ويقعدون إلى أن ينضج، ثم يأكلون ولا يخرجون.. فكان الناس بحاجة إلى أن يتعلموا الآداب الرفيعة، وأن يكون عندهم (ذوق اجتماعي) وشعور رقيق، يمنعهم عن ارتكاب النقائص، وفعل ما يخل بالمروءة، لذلك أنزل الله تعالى هذه الآيات الكريمة تعليماً للأمة وإرشاداً لها إلى سلوك الطريق القويم، وقد قال إسماعيل بن أبي حكيم: "هذا أدبٌ أدّب الله به الثقلاء".
وقال آخر: هذه الآية نزلت في الثقلاء، وحسبُكَ من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم.
ولقد كان هناك من بعض المنافقين إيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالفعل أو القول، حتى قال رجل من المنافقين حين تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة بعد وفاة زوجها أبي سلمة: ما بال محمد يتزوج نساءنا!! والله لو قد مات لأجلنا السّهام على نسائه، يريد اقتسمناهن بالقرعة، فنزلت الآية في هذا، فحرّم الله نكاح أزواجه من بعده، وجعل لهن حكم الأمهات تطييباً لخاطره الشريف وهذا من خصائصه عليه السلام، تمييزاً لشرفه، وتنبيهاً على مرتبته، وما كان لمؤمن أن يؤذيه في نفسه أو أهله، لأنه عليه الصلاة والسلام أب للمؤمنين، وهل يليق بالإنسان أن يتزوج امرأة أبيه وهي أُمّه بنصّ القرآن الكريم!! وصدق الله: { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزْوَٰجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذٰلِكُمْ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيماً }.