خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ
١
يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَلاَ ٱلْهَدْيَ وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٢
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٣
يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ ٱلْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
٤
-المائدة

تفسير آيات الأحكام

[1] ما يحل ويحرم من الأطهمة
التحليل اللفظي
{ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ }: يقال وَفَى بالعهد وأوفى به ومنه
{ { وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ } [البقرة: 177] وأوفى لغة أهل الحجاز، والعقود جمع عقد، وأصله في اللغة الربط تقول: عقدتُ الحبل بالحبل، ثم استعير للمعاني كعقد البيع والعهد وغيرهما.
قال صاحب "الكشاف": العقد: العَهْد الموثّق شبّه بعقد الحبل ونحوه قال الحطيئة:

قوم إذا عَقدوا عقداً لجارهمشدوا العناج وشدوا فوقه الكَرَبا
قومٌ هم الأنْفُ والأَذْنابُ غيرُهمومَنْ يُسَوّى بأنف النّاقةِ الذنبا

والمراد بالعقود هنا ما يشمل العقود التي عقدها الله على عباده كالتكاليف الشرعية، والعهود التي بين الناس كعقود الأمانات، والمبايعات وسائر أنواع العقود.
{ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ }: البهيمة ما لا نطق له وذلك لما في صوته من الإبهام، وخص في العرف بما عدا السباع والطير، أفاده الراغب، والأنعام جمع نَعَم بفتحتين وهي الإبل، والبقر، والغنم.
{ حُرُمٌ }: جمع حرام بمعنى مُحْرِم، ومعنى الآية: غير مستحلي الصيد وأنتم في حالة الإحرام.
{ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ }: ما جعله عَلَماً على طاعته واحدها شعيرة، والمراد بالشعائر هنا مناسك الحج وهو مروي عن ابن عباس، وقيل: المراد بها حدود الله وهو منقول عن عكرمة وعطاء.
{ ٱلْقَلاۤئِدَ }: جمع قلادة وهي ما قلّد به الهدي، وكان الرجل يقلّد بعيره من لحاء شجر الحرم فيأمن بذلك حيث سلك.
{ يَجْرِمَنَّكُمْ }: أي يَكسبنّكم يقال: جرم ذنباً أي كسبه، وفلان جارمُ أهلِه أي كاسبهم.
{ شَنَآنُ }: أي بغض يقال: شنأته إذا أبغضته، والشانيء المبغض قال تعالى:
{ { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ } [الكوثر: 3].
والمعنى: لا يكسبنكم بغض قوم لأن صدوكم عن المسجد الحرام الاعتداء عليهم.
{ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ }: أي ذبح لغير الله، وذكر عند ذبحه غير اسم الله وهو كقولهم: باسم اللات والعزى.
{ وَٱلْمَوْقُوذَةُ }: التي تضرب حتى تشرف على الموت، ثم تترك حتى تموت وتؤكل بغير ذكاة.
{ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ }: الواقعة من جبلٍ أو حائطٍ أو في بئر، يقال: تردّى أي سقط.
{ وَٱلنَّطِيحَةُ }: التي نطحتها شاة أخرى فمات بالنطح، (فعيلة) بمعنى (مفعولة) أي منطوحة.
{ ذَكَّيْتُمْ }: ذبحتموه الذبح الشرعي مع ذكر اسم الله تعالى عند الذبح.
{ ٱلنُّصُبِ }: قال في "اللسان": النّصبُ صنمٌ أو حجر، وكانت الجاهلية تنصبه وتذبح عنده وجمعه أنصاب.
{ بِٱلأَزْلاَمِ }: أي بالقداح جمع زَلَم، والاستقسام بها أن يضرب بها ثم يعمل بما يخرج فيها من أمر أو نهي.
{ مَخْمَصَةٍ }: أي مجاعة، والخَمْصَ: الجوع، قال حاتم يذم رجلاً:

يرى الخَمْص تعذيباً وإن يلقَ شِبْعةيَبِتْ قلبُه من قلة الهمّ مبهماً

{ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ }: أي منحرفٍ مائلٍ إلى الإثم، والجَنَفُ الميل قال تعالى: { { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً } [البقرة: 182].
{ ٱلْجَوَارِحِ }: جمع جارحة وهي الكواسب من سباع البهائم والطير، من جَرَحَ إذا كسب قال تعالى:
{ { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ } [الأنعام: 60] أي كسبتم وقيل: المراد كلاب الصيد.
{ مُكَلِّبِينَ }: جمع مكلِّب بالتشديد وهو الذي يؤدب الكلاب ويعلّمها أن تصيد لأصحابها، وإنما اشتق الاسم من الكلب مع أنه يعلّم الكلاب والبزاة وغيرها لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب.
المعنى الإجمالي
خاطب الله سبحانه المؤمنين، فأمرهم بالوفاء بالعهود التي بينهم وبين الله والناس، ثم ذكر ما أباح لهم من لحوم الإبل والبقر والغنم بعد الذبح، وما حرّم عليهم من الميتة والدم ولحم الخنزير إلى آخر ما ذكر في آية المحرمات التالية، كما ذكر الله تعالى أنه أباح الصيد لعباده إلا في حالة الإحرام.
ونهى الله تعالى في الآية الثانية عن إحلال الشعائر كالصيد في الإحرام، والقتال في الشهر الحرام، والتعرض للهدي والقلائد التي تهدى لبيت الله، والتعرض لقاصدي المسجد الحرام الذين يبتغون الفضل والرضوان من الله بقتالهم أو الاعتداء عليهم، ثم أباح الله تعالى الصيد لعباده بعد التحلل من الإحرام، وزجرهم عن الاعتداء على الغير بسبب بغضهم لهم، فإن الظلم ممقوت وقد حرم الله البغي والعدوان بجميع صوره وضروبه، وأمر بالتعاون على البر والتقوى، وعدم التعاون على الإثم والعدوان وختم الآية بالتهديد، والوعيد لمن خالف أمر الله.
وفي الآية الثالثة عدّد الله تعالى المحرمات التي ذكرها بالإجمال في أول السورة { إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } فبينها هنا بالتفصيل وهي أحد عشر شيئاً كلها من قبيل المطعوم إلا الأخير وهو (الإستقسام بالأزلام) وهذه المحرمات هي التي كان أهل الجاهلية يستحلونها فحرمتها الشريعة الإسلامية وهي (الميتة، الدم، لحم الخنزير، ما ذبح لغير الله، المنخنقة، الموقوذة (المقتولة ضرباً) المتردية (الساقطة من علو فماتت) النطيحة (المقتولة بنطح أخرى) (ما أكل السبع) بعضه إلا إذا أدرك قبل الموت من هذه الأشياء فذبح، الذبح الشرعي، وما قصد بذبحه النصب (الأصنام) وكذلك حرّم الله تعالى الاستقسام بالأقداح التي هي - على زعمهم - استشارة للآلهة في أمورهم، فإن أمرتهم ائتمروا، وإن نهتهم انتهوا، وبيّن الله تعالى أن هذا فسق من عمل الشيطان.
وختم الله تعالى الآيات الكريمة بأنه أكمل الدين وأتم الشريعة، وأحل الطيبات، وحرّم الخبائث إلا في حالة الاضطرار، التي يباح فيها للإنسان ما حرّمه الله تعالى عليه.
سبب النزول
روى ابن عباس رضي الله عنهما أن المشركين كانوا يحجون البيت، ويهدون الهدايا، ويعظّمون المشاعر وينحرون، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فأنزل الله تعالى { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ }.
وجوه القراءات
1 - قرأ الجمهور { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ } بفتح النون في (شنَآنُ)، وقرأ ابن عامر بسكون النون.
2 - قرأ الجمهور { أَن صَدُّوكُمْ } أي من أجل أن صدوكم، وقرأ ابن كثير بالكسر (إن صدوكم) على أنها شرطية.
3 - قرأ الجمهور { وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ } بضم الباء، وقرأ أبو رزين (السّبْعُ) بسكون الباء.
4 - قرأ الجمهور { وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ } بضم الصاد، وقرأ الحسن (النّصْب) بسكون الصاد.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى: نهى الله تعالى عن التعرض للهدي ثم خصّ بالذكر (القلائد) أي ذوات القلائد فيكون هذا من باب عطف الخاص على العام كقوله تعالى:
{ { وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَٰلَ } [البقرة: 98] للتنبيه على زيادة الشرف والفضل، ويجوز أن يكون المراد القلائد نفسها، فنهى عن التعرض لقلائد الهدي مبالغة في النهي عن التعرض للهدي أي لا تحِلّوا قلائدها فضلاً عن أن تحلوها كما في قوله تعالى: { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } [النور: 31] نهى عن إبداء الزينة مبالغة عن إبداء مواقعها.
اللطيفة الثانية: جرت سنة الجاهلية على مبدأ العصبيّة العمياء
"انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" وهو المبدأ الذي عبّر عنه الشاعر الجاهلي بقوله:

وهل أنا إلاّ من غُزَيَّة إن غوتْغويتُ وإن ترشد غُزيةُ أرشد

وجاء الإسلام بهذا المبدأ الإنساني الفاضل الذي عبّر عنه القرآن الكريم بقوله: { { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ } [المائدة: 2] وشتان شتّان بين هذين المبدأين!!
اللطيفة الثالثة: الاستقسام بالأزلام أي بالقداح، وقد كانوا في الجاهلية إذا أرادوا سفراً، أو غزواً، أو تجارةً أو نكاحاً، أو اختلفوا في أمر نسبٍ، أو أمر قتيل، أو تحمل عقل، أو غير ذلك من الأمور العظام، جاءوا إلى (هُبل) أعظم أصنامهم بمكة وجاءوا بمائة درهم فأعطوها صاحب القداح، حتى يجيلُها لهم ويستشيروا آلهتهم (الأصنام) فإن خرج أمرني ربي فعلوا ذلك الأمر، وإن خرج نهاني ربي لم يفعلوا، وإن خرج غُفْل أجالوا ثانياً حتى يخرج المكتوب عليهم، فنهاهم الله عن ذلك وسمّاه فسقاً.
اللطيفة الرابعة: في قوله تعالى: { ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } لم يرد يوماً بعينه، وإنما أراد به الزمان الحاضر وما يتصل به من الأزمنة الماضية والآتية كقول الرجل: كنتُ بالأمس شاباً وأنا اليوم أشْيَبُ، فلا يريد بالأمس الذي قبل اليوم، ولا باليومِ اليوم الذي هو فيه، بل يريد به الزمان الماضي والحاضر.
اللطيفة الخامسة: نزلت هذه الآية الكريمة { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً } على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة، في يوم جمعة، فكان ذلك اليومُ عيداً على عيد، روي أن رجلاً من اليهود جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال يا أمير المؤمنين: آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: أيَّ آية تعني؟ قال: { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } الآية فقال عمر: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، والساعة التي نزلت فيها، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة في يوم جمعة.
وروي أنه لما نزلت هذه الآية بكى عمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا عمر؟ قال: أبكاني أنّا كنا في زيادة من ديننا، وإنه لا يكمل شيء إلا نقص، فقال: صدقت، فكانت هذه الآية نَعيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فما لبث بعد ذلك إلاّ إحدى وثمانين يوماً.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول: ما المراد بالعقود في الآية الكريمة؟
قال بعض العلماء: المراد بالعقود عقود الدّيْن والمعاملة، وهي ما عقده الإنسان على نفسه من بيع، وشراء، وإجارة، وغير ذلك ممّا يتعامل به الناس، وهو قول الحسن.
وقال آخرون: المراد بها عقود الشريعة من حج، وصيام، واعتكاف، وقيام، ونذور وما أشبه ذلك من الطاعات، وهو قول ابن عباس ومجاهد، ورجّحه الطبري.
والصحيح كما قال القرطبي وجمهور المفسرين أن المراد بالعقود ما يشمل عقود المعاملة وعقود الشريعة وهي التكاليف والواجبات الشرعية التي فرضها الله على عباده، وما أُحل وحرّم عليهم.
قال القرطبي: قال الزجاج: المعنى أوفوا بعقد الله عليكم، وبعقد بعضكم على بعض. وهذا كله راجع إلى القول بالعموم، وهو الصحيح في الباب، لقوله عليه السلام: "المؤمنون عند شروطهم".
الحكم الثاني: المحرمات من الأنعام التي أشارت إليها الآية الكريمة.
ذكرت الآية الكريمة المحرمات من الأنعام بالتفصيل وهي (الميتة، الدم، لحم الخنزير، ما ذبح للأصنام أو ذكر عليه اسم غير الله، المنخنقة، الموقوذة، المتردية، النطيحة، فما أكله السبع أي ما افترسه ذو ناب وأظفار كالذئب والأسد) وقد استثنى الباري جل وعلا من (الموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكله السبع) ما أدركه الإنسان حياً فذكاه التذكية الشرعية.
وقد اختلف الفقهاء في الذكاة هل تحل هذه الأنواع التي لها حكم الميتة؟ فالمشهور من مذهب الشافعية وهو مذهب الحنفية أن الحيوان إذا أُدرك وبه أثر حياة كأن يكون ذنبه يتحرك، أو رجله تركض ثم ذَكّي فهو حلال.
وقال بعضهم: يشترط في الحياة أن تكون مستقرة، وهي التي لا تكون على شرف الزوال، وعلامتها على ما قيل: أن يضطرب بعد الذبح لا وقته.
وروي عن مالك أنه إذا غلب على الظن أنه يهلك فلا يحل ولا يؤثر فيه الذكاة، وروي عنه قول آخر مثل قول الشافعية والحنفية أنه يحلّ إذا كان به أدنى ما يدرك به الذكاة.
وسبب الخلاف بين الفقهاء هو الاستثناء في الآية الكريمة { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } هل هو استثناء متصل أم منقطع؟ فمن رأى أنه متصل يرى أنه أخرج من حكم التحريم ويكون معنى الآية: إلاّ ما أدركتموه وفيه بقية حياة وذكيتموه فإنه حلال لكم أكله.
ومن رأى أنه منقطع يرى أن التذكية لا تحلّ هذه الأنواع، وأن الاستثناء من التحريم لا من المحرمات، ومعنى الآية: حرّم عليكم سائر ما ذكر لكن ما ذكيتم مما أحله الله تعالى بالتذكية فإنه حلال لكم.
والراجح أن الاستثناء متصل لأنه لو تردى الحيوان ولم يمت ثم ذبح بعد أيام جاز أكله باتفاق فلا وجه للقول الآخر والاستثناء المتصل على ما تقدم يرجع إلى الأصناف الخمسة من المنخنقة وما بعدها، وهو قول علي وابن عباس والحسن، وقيل: إنه خاص بالأخير، والأول أظهر.
الحكم الثالث: كيف تكون الذكاة الشرعية؟
أ - قال مالك: لا تصح الذكاة إلا بقطع الحلقوم والودجين.
ب - وقال الشافعي: يصح بقطع الحلقوم والمريء ولا يحتاج إلى الودجين، لأنهما مجرى الطعام والشراب.
جـ - وقال أبو حنيفة: يجزئ قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين.
والتفصيل في كتب الفقه، إلا أن مالكاً وأبا حنيفة اعتبروا الموت على وجهٍ يطيب معه اللحم، ويفترق فيه الحلال - وهو اللحم - من الحرام، وذلك بقطع الأوداج التي يسيل منها الدم لقوله عليه السلام:
"ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا" .
وأما الآلة التي تجوز بها الذكاة فهي كل ما أنهر الدم، وفرى الأوداج سوى السن والظفر.
وأجاز أبو حنيفة الذكاة بالسن والظفر إذا كانا منزوعين.
فأما البعير إذا توحش، أو تردّى في بئر، فهو بمنزلة الصيد ذكاته عقْرُه، لما رواه البخاري والنسائي وأبو داود عن (رافع بن خديج) قال:
" كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفره، فندّ بعير من إبل القوم، ولم يكن معهم خيل، فرماه رجلٌ بسهم فحبسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما فعل منها هذا فافعلوا به هكذا" .
وقال مالك: ذكاتُه ذكاةُ المقدور عليه. قال الإمام أحمد: لعلّ مالكاً لم يسمع حديث رافع بن خديج.
وقد تأويل ابن العربي في تفسيره "أحكام القرآن": الحديث بأن مفاده جواز حبس ما ندّ من البهائم بالرمي وغيره، لأنّ ذلك ذكاة لها، وأنه لا بدّ من الذبح للأنعام.
الحكم الرابع: حكم صيد السباع والجوارح.
دلّ قوله تعالى: { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ ٱلْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } أي معلمين لها الصيد، على جواز أكل ما صاده سباع البهائم والجوارح، كالكلب والفَهْد، والصقر والبازي، بشرط أن يكون الحيوان أو الطير معلّماً.
وقد اتفق الفقهاء على جواز صيد كل كلب معلّم لقوله عليه السلام لعدي بن حاتم:
"إذا أرسلت كلبك المعلّم وذكرت اسم الله تعالى فكل مما أمسك عليك، فإن أكل منه فلا تأكل" .
وشرط بعضهم في الكلب المعلّم شروطاً ينبغي أن تتوفر حتى يحل صيده منها:
1 - أن يكون معلّماً يجيب إذا دعي، وينزجر إذا زجر لقوله تعالى: { تُعَلِّمُونَهُنَّ }.
2 - أن لا يأكل من صيده الذي صاده لقوله تعالى: { فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ }.
3 - أن يذكر اسم الله تعالى عند إرساله لقوله تعالى: { وَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } وقوله صلى الله عليه وسلم:
"وذكرت اسم الله تعالى" .
4- أن يكون الذي يصيد بهذا الحيوان مسلماً، وشرط بعضهم ألا يكون الكلب أسود.
وفي بعض هذه الشروط خلاف بين الفقهاء يعلم من كتب الفقه والله أعلم.