خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِٱللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ ٱلْفُرْقَانِ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٤١
-الأنفال

تفسير آيات الأحكام

[3] كيفية قسمة الغنائم
التحليل اللفظي
{ غَنِمْتُمْ }: الغنيمة.. ما أخذ من الكفار قهراً بطريق القتال والغلبة، أما ما أخذ منهم بغير حرب أو قتال فهو "فيء" كما مر سابقاً. قال الشاعر:

وقد طوّفت في الآفاق حتىرضيت من الغنيمة بالإياب

{ خُمُسَهُ }: بضم الميم وإسكانها لغتان وقد قرئ بهما، والخمس أن يقسم الشيء إلى خمسة أجزاء ثم يؤخذ جزء واحد منه، والواجب الشرعي أن تخمسّ الغنائم فيصرف الخمس فيما ذكره الله، ويوزع الباقي وهو أربعة أخماس بين الغانمين.
قال القرطبي: لما بين الله تعالى حكم الخمس وسكت عن الباقي دل ذلك على أنه ملك للغانمين.
{ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ }: هم قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم: "بنو هاشم، وبنو المطلب" على الصحيح من الأقوال كما سيأتي إن شاء الله.
{ وَٱلْيَتَامَىٰ }: هم أولاد المسلمين الذين هلك آباؤهم في سن الصغر قبل البلوغ، لأنه لا يتم بعد البلوغ.
{ وَٱلْمَسَاكِينِ }: هم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين.
{ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ }: هو المنقطع في سفره مع شدة حاجته وإنما قيل "ابن السبيل" لأنه لما انقطع في سفره أصبح الطريق كأنه أبٌ له.
{ يَوْمَ ٱلْفُرْقَانِ }: هو يوم بدر لأن الله سبحانه وتعالى فرق فيه بين الحق والباطل وبين الإيمان والكفر وهذه الغزوة كانت في السنة الثانية من الهجرة وفي السابع عشر من رمضان وهي أول معركة وقعت بين المسلمين والمشركين.
{ ٱلْجَمْعَانِ }: المراد به جمع المؤمنين وجمع المشركين.
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه: اعلموا أيها المؤمنون أن كل ما غنمتموه من الكفار المحاربين أياً كان قليلاً أو كثيراً حق ثابت لكم. وحكمه: أن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل فاقسموه - خمسة أقسام - واجعلوا خمسه لله، ينفق في مصالح الدين، وإقامة الشعائر، وعمارة الكعبة وكسوتها، ثم اعطوا الرسول صلى الله عليه وسلم منه كفايته لنفسه ولنسائه، ثم أعطوا منه ذي القربى من أهله وعشيرته، ثم المحتاجين من سائر المسلمين وهم اليتامى والمساكين وابن السبيل ثم بين سبحانه وتعالى أن هذا هو مقتضى الإيمان وهو الإذعان. والخضوع لأوامره وأحكامه وعدم الخلاف والنزاع فيما بينهم لأن الله عز وجل هو الذي قسم فأعطى كلَّ ذي حق حقه كما راعى مصالح العباد جميعاً فما على المؤمنين إلا الرضى والتسليم لحكم الله العلي الكبير.
وجه الارتباط بالآيات السابقة
لما أمر سبحانه وتعالى في الآيات السابقة بقتال الكفرة المعتدين، الذين كانوا يفتنون المؤمنون، ويقفون في وجه الدعوة الإسلامية، ووعد المؤمنين بالنصر عليهم، وكان ذلك مستلزماً لكسب الغنائم منهم، بيّن جل وعلا هنا حكم قسمة هذه الغنائم، وأوضح وجوه المصارف فيها حتى لا يكون ثمة نزاع ولا خلاف بين الغانمين، فهذا هو وجه الارتباط.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى: التنكير في قوله تعالى: { مِّن شَيْءٍ } يفيد التقليل أي أي شيء كان، سواء كان هذا الشيء قليلاً أو كثيراً، عظيماً أو حقيراً، حتى الخيط والمخيط (الإبرة).
اللطيفة الثانية: ذكرُ الله تعالى في القسمة في قوله تعالى: { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } لتعليمنا التبرك بذكر اسم الله المعظم، واستفتاح الأمور باسمه تعالى، ولا يقصد منه أن الخمس يقسم على ستة منها (الله) فإنّ لله الدنيا والآخرة، والله هو الغني الحميد، أو يراد منه إنفاقه في سبيل الله فيكون الكلام على (حذف مضاف).
اللطيفة الثالثة: قوله تعالى: { وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا } المراد به محمد صلى الله عليه وسلم وإنما لم يذكره باسمه تعظيماً له وتكريماً، لأن أعظم وأشرف أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم وصفه بالعبودية، وهذا هو السر في ذكره في سورة الإسراء بهذا الوصف الجليل
{ { سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ } [الإسراء: 1] وإضافة العبد إليه تعالى تشعر بكمال العناية والتكريم كما قال أحد العارفين:

وممّا زادني شرفاً وتيهاًوكدتُ بأخمصي أطَأ الثُريّا
دخولي تحت قولك "يا عبادي"وإنْ صيّرْتَ "أحمد" لي نبياً

فائدة هامة: قال المراغي: في "تفسيره" وإنما خص الرسول صلى الله عليه وسلم من ذي القربى بني هاشم، وبني المطلب دون بني عبد شمس، ونوفل لأن قريشاً لما كتبت وأخرجت بني هاشم من مكة وحصرتهم في الشعب، لأنهم ناصروا الرسول صلى الله عليه وسلم دخل معهم فيه بنو المطلب ولم يدخل بنو عبد شمس ولا بنو نوفل لذلك خصهم عليه الصلاة والسلام بالقسمة تكريماً لهم وتقديراً.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول: هل الغنيمة والفيء شيء واحد؟!
بينا فيما سبق التعريف لكلٍ من الغنيمة والفيء. وقد اختلف العلماء فيهما:
فقال بعضهم: الغنيمة ما أخذ عَنوة من الكفار في الحرب. والفيء ما أخذ عن صلح... وهذا قول الشافعي.
وقال بعضهم: الغنيمة ما أخذ من مال منقول. والفيء هو مال غير المنقول كالأرضين والعقارات وغيرها.. وهذا قول مجاهد.
وقيل: الغنيمة والفيء بمعنى واحد. والصحيح الأول وهو ما ذهب إليه الشافعيرحمه الله .
قال القرطبي: واعلم أن الاتفاق حاصل على أن المراد بقوله تعالى: { غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ } مال الكفار إذا ظفر به المسلمون على وجه الغلبة والقهر، ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص على ما بينا، ولكنْ عُرْفُ الشرع قيّد اللفظ بهذا النوع. وسمّى الشرع المال الواصل إلينا من الكفار باسمين: (غنيمة) و(فيء) فالشيء الذي يناله المسلمون من عدوهم بالسعي وإيجاف الخيل والركاب "غنيمة" ولزم هذا الاسم هذا المعنى حتى صار عرفاً، والفيء مأخوذ من فاء يفيء إذا رجع وهو كل مال دخل على المسلمين من غير حرب ولا إيجاف كخراج الأرضين.
الحكم الثاني: كيف يوزع الخمس بين الغانمين؟
ذكرت الآية الكريمة أن خمس الغنائم يوزع لمن سمّاهم الله عز وجل في كتابه العزيز وهم ستة (الله، الرسول، ذو القربى، اليتامى، المساكين، ابن السبيل) وسكتت عن الباقي فدل ذلك على أنه يوزع على الغانمين.
سهم الله: أما سهم "الله" عز وجل فقد اختلف المفسرون فيه على قولين:
أ - إنه يصرف على الكعبة لأن قوله (لله) أي لبيت الله فهو على (حذف مضاف).
ب - وقال الجمهور إن قوله (لله) استفتاح كلام يقصد به التبرك فللَّه الدنيا والآخرة وهو المالك لكل ما في السماوات والأرض فليس سبحانه بحاجة إلى سهم من هذه السهام لأنه هو الغني وإنما ذكر تبارك وتعالى اسمه ليعلمنا التبرك بذكره وافتتاح الأمور باسمه وعلى هذا الرأي يكون الخمس بين خمسة (الرسول، ذي القربى، اليتامى، المساكين، ابن السبيل).
سهم الرسول: أما سهم الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه حق له صلى الله عليه وسلم يأخذه من الغنيمة ويضعه حيث شاء لأهل بيته أو في مصالح المسلمين، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم
"ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم" .
وقال آخرون إن لفظ (الرسول) في الآية استفتاح كلام كما قالوا في قوله (لله) وأن الخمس يقسم على أربعة أسهم (ذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل).
سهم ذي القربى: والمراد قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد اختلف في (ذي القربى) على ثلاثة أقوال:
أ - قيل إنهم قريش جميعاً.
ب - وقيل إنهم بنو هاشم فقط.
جـ - وقيل إنهم (بنو هاشم وبنو المطلب) وهذا هو الرأي الصحيح والراجح.
ومما يدل عليه ما رواه البخاري عن (مطعم بن جبير) من بني نوفل قال: مشيتُ أنا وعثمان بن عفان - من بني عبد شمس - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا يا رسول الله! أعطيت بني المطلب وتركتنا ونحن وهم بمنزلة واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد، إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام" . فدلّ الحديث على أن المراد بذي القربى (بنو المطلب وبنو هاشم) ويرى بعضهم أن القرابة لا يعطون إلا أن يكونوا فقراء وهذا الحكم ثابت للرسول صلى الله عليه وسلم ولذي قرباه في حياته وأما بعد وفاته يرجع إلى بيت مال المسلمين.
قال أبو حنيفة: يقسم الخمس على ثلاثة (اليتامى، والمساكين، وابن السبيل) لأنه قد ارتفع سهم الرسول صلى الله عليه وسلم بموته كما ارتفع سهم أقربائه بموته وهذا منقول عن الشافعي أيضاً. قالوا: ويبدأ من الخمس بإصلاح القناطر، وبناء المساجد، وأرزاق القضاة والجند.
ويصرف في مصالح المسلمين.
سهم اليتامى: وهذا السهم يصرف على أطفال المسلمين الذين هلك آباؤهم وهم في سن الصغر وأما بعد البلوغ فيزول عنهم وصف اليتم.
سهم المساكين: وهم أهل الفاقة والحاجة من ضعفاء المسلمين الذين لا يملكون من حطام الدنيا شيئاً ويحتاجون إلى مواساة ومساعدة.
سهم ابن السبيل: وهو الغريب الذي انقطع في سفره فإنه يعطى من الخمس حتى ولو كان غنياً في بلده. ذلك لأننا نعتبر حالته التي هو عليها الآن.
مذهب المالكية: وقد خالف المالكية هذه الأقوال المتقدمة جميعاً ورأوا أن الخمس - خمس الغنيمة - يجعل في بيت المال ينفق منه على ما ذكر في الآية وعلى غيرهم بحسب ما يراه الإمام من المصلحة وقالوا: إن ذكر هذه الأصناف في الآية الكريمة إنما هو على سبيل المثال لا على سبيل التمليك وهو من باب إطلاق (الخاص وأريد به العام).
أدلة المالكية:
وقد استدل المالكية لمذهبهم ببضعة أدلة ثبتت في المغازي والسير جعلتهم يذهبون إلى هذا الرأي وقد ذكرها ابن العربي في "أحكام القرآن" وهي:
أولاً: روي في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية قبل نجد فأصابوا في سهمانهم اثني عشر بعيراً ونفلوا بعيراً بعيراً.
ثانياً: ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في أسارى بدر:
"لو كان المطعم بن عدي حياً وكلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له" والمراد بالنتنى (الأسرى من المشركين) والمطعم بن عدي هو الذي أجار النبي صلى الله عليه وسلم حين رجع من الطائف وهو الذي قام بنقض الصحيفة، فقال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم مكافأة له على جميلة وإحسانه.
ثالثاً: ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ردّ سبي هوازن وفيه الخمس.
رابعاً: روي في الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال:
"آثر النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين أناساً من الغنيمة فأعطى (الأقرع بن حابس) مائة من الإبل وأعطى (عيينة) مائة من الإبل، وأعطى أناساً من أشراف العرب وآثرهم يومئذٍ في القسمة فقال رجل: والله إن هذه القسمة ما عدل فيها. أو ما أريد بها وجه الله!! فقلت: والله لأخبرنّ النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته: فقال: يرحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر" .
خامساً: روي في الصحيح أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمسُ والخمس مردود عليكم" .
فمن هذه الأحاديث يتبين أن الخمس من حق الإمام يتصرف به كيف شاء، ويجعله في مصالح المؤمنين وأن ذكر هذه الأصناف في الآية إنما هو على سبيل (التمثيل) لا على سبيل (التمليك) إذ لو كان ملكاً واستحقاقاً لهم لما جعله الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان في غيرهم وهذا الرأي للماليكة سديد ووجيه.
الحكم الثالث: كيف توزع الغنائم؟
ظاهر الآية يدل على أن توزيع الغنيمة يكون بين المحاربين على السوية، من دون تفضيل أو زيادة أو نقص، وقد وردت السنة النبوية تشير إلى التفضيل، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم
"جعل للفارس سهمين وللراجل سهماً" وفي "البخاري" عن ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم "جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهماً" .
ورأي الجمهور من العلماء أن يعطى الفارسُ سهمين ويُعطى الراجلُ سهماً واحداً وذلك لأن الذي يركب الفرس يحتاج إلى نفقةٍ لفرسه ويكون بلاؤه في الحرب أعظم ولذلك فإن الشارع الحكيم راعى هذه الناحية فزاده في القسمة فأعطى سهماً له وسهماً لفرسه.
الحكم الرابع: هل الآية هذه ناسخة للآية السابقة؟
يذهب بعض العلماء إلى أن هذه الآية ناسخة لأول السورة لأن الآية الأولى ذكرت أن الأنفال لله والرسول. وهذه الآية بينت أنّ للغانمين أربعة أخماس الغنيمة فتكون هذه الآية ناسخة لتلك، والصحيح أنه لا نسخ كما وضحنا ذلك في السابق والله أعلم.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً - التشريع لله سبحانه وليس لأحدٍ أن يشرّع من تلقاء نفسه.
ثانياً - الخمس يصرف في سبيل الله وفي المصارف التي أشارت إليها الآية الكريمة.
ثالثاً: الغنائم توزع بين المجاهدين حسب ما شرع الله وفصله الرسول صلى الله عليه وسلم.
رابعاً: على المؤمن أن يمتثل أمر الله ويطيع رسوله في كل شؤون الحياة.
خامساً: يوم بدر هو يوم الفرقان الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل وبين الكفر والإيمان.