التفاسير

< >
عرض

قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ
٢٩
وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ وَقَالَتْ ٱلنَّصَارَى ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ ذٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ
٣٠
ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُوۤاْ إِلَـٰهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
٣١
يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ
٣٢
هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ
٣٣
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
٣٤
يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ
٣٥
إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ ٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ
٣٦
إِنَّمَا ٱلنَّسِيۤءُ زِيَادَةٌ فِي ٱلْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوۤءُ أَعْمَالِهِمْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ
٣٧
-التوبة

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { عزير ابن } بالتنوين مكسورة للساكنين: عاصم وعلي وسهل ويعقوب. الباقون: بغير تنوين { يضاهئون } بالهمز. عاصم. الآخرون { يضاهون } بحذف الهمزة. { أن يطفوا } و { ليواطوا } بحذف الهمزة فيهما. يزيد وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة { اثنا عشر } بسكون العين: يزيد والخزاز { إنما النسي } بالتشديد: ورش من طريق النجاري وحمزة في الوقف. الباقون: بباء بعدها همزة. { يضل } بضم الياء وفتح الضاد: علي وحمزة غير العجلي وحفص وخلف لنفسه. { يضل } بضم الياء وكسر الضاد: العجلي وأوقية ورويس. الباقون { يضل } بفتح الياء وكسر الضاد.
الوقوف: { صاغرون } ه { المسيح ابن الله } ط { بأفواههم } ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف { من قبل } ط { قاتلهم الله } ج { يؤفكون } ه { ابن مريم } ج لاحتمال الجملة بعده أن تكون حالاً واستئنافاً. { واحداً } ج لأن ما بعده يصلح ابتداء ووصفاً { إلا هو } ط { يشركون } ه { الكافرون } ه { كله } لا لتعلق "لو" بما قبله { المشركون } ه { عن سبيل الله } ط { في سبيل الله } لا لتعلق الفاء { أليم } ه لا أي في يوم. { وظهورهم } ط { تكنزون } ه { حرم } ط { يقاتلونكم كافة } ط { المتقين } ه { فيحلوا ما حرم الله } ط { أعمالهم } ط { الكافرين } ه.
التفسير: إنه سبحانه لما ذكر شبهات المشركين وأجاب عنها بأجوبة صحيحة أراد أن يبين أحكام أهل الكتاب والمقصود تميزهم من المشركين في الحكم لأن الواجب في المشركين القتال إلى الإسلام، والواجب في أهل الكتاب القتال إلى الإسلام أو الجزية. واعلم أنه تعالى ذكر صفات أربع وأمر بقتال من اتصف بها ثم بين الموصوفين بها بقوله { من الذين أوتوا الكتاب } فدل ذلك على أن أهل الكتاب متصفون بتلك الصفات؛ فالصفة الأولى أنهم { لا يؤمنون بالله } فأورد عليه أن القوم يقولون نحن نؤمن بالله، وأجيب بأن إيمانهم بالله كلا أيمان لأنهم مشبهة وحلولية. واعترض ثانياً بأن كل من نازع في صفة من صفات الله وكان منكراً لله لزم أن يكون أكثر المتكلمين كذلك فالأشعري من أهل السنة أثبت البقاء صفة، والقاضي أنكره، وعبد الله بن سعيد أثبت القدم صفة، والباقون أنكروه، والقاضي أثبت لله إدراك الطعوم وإدراك الروائح والحرارة والبرودة والأستاذ أبو إسحق أنكره، والقاضي أثبت للصفات سبعة أحوال معللة بغير الصفات وغيره أنكره، وعبد الله ابن سعيد زعم أن كلام الله في الأزل ما كان أمراً ولا نهياً ولا خبراً ثم صار كذلك عند الإنزال، والآخرون أنكروه، وقوم من قدماء الأشاعرة أثبتوا لله خمس كلمات: الأمر والنهي والاستخبار والخبر والنداء. والمشهور أن كلام الله واحد. واختلفوا في أن خلاف المعلوم هل هو مقدور لله؟. وأما اختلافات المعتزلة وسائر الفرق فأكثر من أن تحصى ههنا. وأجيب بأن المجسم خالف في الذات لأنه يقول إن الإله جسم والبرهان دل على أن إله العالم ليس بجسم ولا جسماني. وأما الخلاف في المسائل المذكورة فراجع إلى الصفة فظهر الفرق. نعم إنا نكفر الحلولية والحروفية القائلين بأن كلام الله تعالى حل في كل لسان وفي كل جسم كتب فيه القرآن كما نكفر النصارى القائلين بأن أقنوم الكلمة حلت في عيسى.
الصفة الثانية: أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر لأن اليهود والنصارى ينكرون المعاد الجسماني. والقرآن دل على أن أهل الجنة يأكلون ويشربون وباللذات يتمتعون، وأما السعادات الروحانية فمتفق عليها. الصفة الثالثة: { ولا يحرّمون ما حرم الله ورسوله } أي لا يحرّمون ما حرم الله في القرآن، والرسول في سنته كالخمر والخنزير ونحوهما. وقال أبو روق: أي لا يعملون بما في التوراة والإنجيل بل حرفوهما وأتوا بأحكام توافق مشتهاهم. الصفة الرابعة: { ولا يدينون دين الحق } أي لا يعتقدون صحة دين الإسلام الذي هو الحق. يقال: فلان يدين بكذا إذا اتخذ ذلك دينه ومعتقده. وقيل: الحق هو الله. ثم ذكر غاية القتال فقال { حتى يعطوا الجزية } فعله من جزى يجزي إذا قضى ما عليه. قال الواحدي: هي ما يعطى المعاهد على عهده. وقال في الكشاف: سميت جزية لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه أي يقضوه، أو لأنهم يجزون بها من منّ عليهم بالإعفاء عن القتل. ومعنى { عن يد } إن أريد بها يد المعطي أي عن يد مؤاتية غير ممتنعة يقال: أعطى بيده إذا انقاد وأصحب، أو المراد حتى يعطوها عن يد إلى نقداً غير نسيئة ولا مبعوثاً على يد أحد، وإن أريد بها يد الآخذ فمعناه حتى يعطوها عن يد قاهرة مستولية أي بسببها كقوله:

ينهون عن أكل وعن شرب

أي يتناهون السمن بسببهما. أو المراد عن إنعام عليهم فإن قبول الجزية منهم بدلاً عن أرواحهم نعمة عظيمة عليهم. قيل: إن من اليهود موحدة فما وجه إيجاب الجزية عليهم؟ والجواب أنه إذا ثبت وجوب الجزية على بعضهم لزم القول في حق الكل لعسر الامتياز ولوجود الصفات الباقية فيهم. أما مقدار الجزية فعن أنس: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل محتلم ديناراً، وقسم عمر على فقرائهم في المدينة اثني عشر درهماً، وعلى الأوساط أربعة وعشرين، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين. فذهب الشافعي إلى أن أقل الجزية دينار لا يزاد على الدنيار إلا بالتراضي. وذهب أبو حنيفة إلى قسم عمر. والمجوس سبيلهم سبيل أهل الكتاب لقوله صلى الله عليه وسلم: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" ويروى أنه صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر وذلك أن لهم شبهة كتاب. ومعنى ذلك أن كتبهم وهي الصحف التي أنزلت على إبراهيم صلى الله عليه وسلم قد رفعت إلى السماء لأحداث أحدثوها. وليس المقصود من أخذ الجزية تقرير الكفرة على كفرهم بدينار واحد حتى يصير موجباً للطعن، وإنما الغرض حقن دمائهم وإمهالهم مدة لعلهم يتفكرون في كتابهم فيعرفون صدق محمد وما دعاهم إليه. وأيضاً فيه حرمة أنبيائهم وحرمة كتابهم وحرمة آبائهم الذين انقرضوا على الحق من شريعة التوراة والإنجيل. وأما قوله { وهم صاغرون } فمعناه أنه لا بد مع أخذ الجزية من إلحاق الذل والصغار بهم. والسبب فيه أن طبع العاقل ينفر عن تحمل الذل فإذا أمهل الكافر مدة وهو يشاهد عزّ الإسلام وذل الكفر ويسمع الدلائل فالظاهر أن مجموع ذلك يحمله على الانتقال إلى الإسلام. وفسروا الصغار في الآية بأخذ الجزية على سبيل الإهانة بأن يكون الذمي قائماً والمسلم الذي يأخذ الجزية قاعداً ويأمره بأن يخرج يده من جيبه ويحني ظهره ويطأطىء رأسه فيصب ما معه في كفة الميزان ويأخذ المستوفي بلحيته ويضرب في لهزمتيه. وهذه الهيئة مستحبة على الأصح لا واجبة. وقيل: الصغار هو نفس أخذ الجزية. والجزية تسقط بالإسلام عند أبي حنيفة دون الشافعي. وإنها تؤخذ عند أبي حنيفة في أوّل السنة وعند الشافعي في آخرها. ولا تؤخذ من فقير لا كسب له ولا من امرأة وخنثى ولا صبي ولا مجنون وعبد ولا من سيده بسببه، وتضرب على الزمن والعسيف والشيخ الفاني والراهب والأعمى على الأصح من قولي الشافعي، لأن الجزية بمنزلة الكراء يستوي فيه المعذورون وغيرهم. قال الشافعي في أحد قوليه. العاجز عن الكسب يعقد له الذمة بالجزية فإذا تم الحول أخذنا إن أيسر وإلا فهي في ذمته إلى أن يوسر وهكذا في كل حول. ولا يصح عقد الذمة إلا من الإمام أو نائبه الذي فوضه إليه لأنه من الأمور الكلية. وكيفية العقد أن يقول: أقررتكم وأذنت لكم في الإقامة في دار الإسلام على أن تبذلوا كذا وتنقادوا لأحكام الإسلام التي يراها الإمام. ولا يقرأ أهل الكتاب بالجزية في أرض الحجاز لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أخرجوا اليهود من الحجاز" قال الشافعي: هو مكة والمدينة ومخالفيهما أي قراهما. وما روي أنه صلى الله عليه وسلم أوصى بأن يخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب فمحمول على أنه أراد الحجاز جمعاً بين الحديثين. وقد بقي في الآية نكته ذكرها بعض العلماء في أن المسلم لا يقتل بالذمي قال: لأن قوله { قاتلوا } مشتمل على إباحة دمهم وعلى عدم وجوب القصاص بسبب قتلهم فلما قال { حتى يعطوا الجزية } علمنا أن المجموع انتفى عند إعطاء الجزية، ولكن انتفاء المجموع يكفي فيه انتفاء أحد جزأيه وأحد الجزأين - وهو وجوب قتلهم - مرتفع بالاتفاق فيبقى الآخر وهو عدم وجوب القصاص بقتلهم بعد أداء الجزية كما كان. ولقائل أن يقول: لا نزاع في الاحتمال ولكن ما الدليل على عدم وجوب القصاص وأنت بصدد إثباته؟.
ولما حكم في الآية المتقدمة أن أهل الكتاب لا يؤمنون بالله شرع في إثبات تلك الدعوى فقال { وقالت اليهود عزير ابن الله } الآية. العلم مبتدأ والابن خبره ومن أسقط التنوين من عزير فلأنه اسم أعجمي زائد على ثلاثة أحرف فيمتنع من الصرف كعازر. وقيل: منصرف لكونه عربياً وكان الوجه كسر التنوين كقراءة عاصم ولكنه أسقط التنوين للساكنين على مذهب بعضهم. أو لأن الابن وقع وصفاً والخبر محذوف وهو معبودنا. وطعن في هذا الوجه عبد القاهر باستلزامه احتمال توجه الذم إلى الخبر دون الوصف. وحينئذ يحصل تسليم كونه ابناً لله ومعلوم أن ذلك كفر. وهذا قول ناس من اليهود بالمدينة. وما هو بقول كلهم إلا أنه جاء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد. يقال: فلان يركب الخيول أو يجالس الملوك. ولعله لم يركب أو لم يجالس إلا واحداً. عن ابن عباس: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف فقالوا ذلك. وعنه أيضاً أن اليهود أضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق فأنساهم الله التوراة ونسخها من صدورهم، فتضرع عزير إلى الله تعالى وابتهل إليه فعاد حفظ التوراة إلى قلبه فأنذر قومه، فلما جربوه وجدوه صادقاً فيه فقالوا: هذا ابن الله. وقال عبيد بن عمير: إنما قال هذا القول رجل من اليهود اسمه فنحاص بن عازوراء. وقيل: لعل هذا المذهب كان فاشياً فيهم ثم انقطع، ولا عبرة بإنكار اليهود قول الله أصدق. وقال في الكشاف: الدليل على أن هذا القول كان فيهم أن الآية تليت عليهم فما أنكروا ولا كذبوا مع تهالكهم على التكذيب. وأما النصارى فلا شك أنهم يقولون ذلك وقد حكى الواحدي في سبب ذلك أن أتباع عيسى كانوا على الحق بعد رفع عيسى إلى السماء حتى وقع حرب بينهم وبين اليهود وكان في اليهود رجل شجاع، يقال له بولس. قتل جمعاً من أصحاب عيسى ثم قال لليهود: إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا والنار مصيرنا ونحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار وإني أحتال فأضلهم، فعرقب فرسه وأظهر الندامة بما كان يصنع ووضع على رأسه التراب وقال: نوديت من السماء ليس لك توبة إلا أن تنتصر وقد تبت فأدخله النصارى الكنيسة. ومكث سنة لا يخرج وتعلم الإنجيل فصدقوه وأحبوه ثم مضى إلى بيت المقدس واستخلف عليهم رجلاً اسمه نسطور وعلمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة، وتوجه إلى الروم وعلمهم اللاهوت والناسوت وقال: ما كان عيسى إنساناً ولا جسماً ولكنه الله. وعلم رجلاً آخر - يقال له يعقوب - ذلك ثم دعا رجلاً - يقال له ملكاً - فقال له: إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى. ثم دعا هؤلاء الثلاثة وقال لكل واحد منهم: أنت خليفتي فادع الناس إلى نحلتك، ولقد رأيت عيسى في المنام ورضي عني وإني غداً أذبح نفسي لمرضاة عيسى، ثم دخل المذبح فذبح نفسه. هذا هو السبب في وقوع هذا الكفر في طوائف النصارى. الأقرب أن لفظ الابن قد وقع في الإنجيل على سبيل التشريف حيث قال: إنك أنت الابن الوحيد كما وقع لفظ الخليل في حق إبراهيم عليه السلام. وقال المسيح عليه السلام للحواريين: أحبوا أعداءكم وباركوا على لاعنيكم وأحسنوا إلى مبغضيكم وصلوا على من يؤذيكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماء الذي أشرق شمسه على الصالحين والفجرة. ثم إن القوم لأجل عداوة اليهود ولأجل أن يقابلوا غلوهم الفاسد في أحد الطرفين بلغو فاسد في الطرف الآخر حملوا لفظ الابن على البنوة الحقيقية والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. ثم قال سبحانه { ذلك قولهم بأفواههم } وفائدة هذا التخصيص - وكل قول فإنما يقال بالفم - أنه قول لا يعضده برهان بل البرهان دال على نقيضه لاستحالة إثبات الولد لمن هو مبرأ عن الحاجة والشهوة والمضاجعة واتخاذ الصاحبة، فما هو إلا لفظ يفوهون به فارغ من معنى تحته كالألفاظ المهملة التي لا تجاوز الحناجر ولا يؤثر معناها في القلب بل لا معنى لها حتى تؤثره، نظيره قوله
{ وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم } [النور: 15] أو نقول: إن الإنسان قد يختار مذهباً ولكن لا يصرح به ولا يذكره بلسانه، أما إذا نطق به فذلك هو الغاية في اختياره وإذا ساعده عليه دليل كان نهاية في الحسن والتأثير. فالمارد بالقول المذهب وأنهم يصرحون به لا يخفونه ألبتة، أو أنه مذهب لا يساعده دليل فلا تأثير له في القلوب. ويحتمل أن يراد أنهم دعوا الخلق إلى هذه المقالة حتى وقعت في الأفواه والألسنة { يضاهنون } من قرأ بغير همز فظاهر لأنه من ضاهى يضاهي منقوصاً أي شاكل، ومن قرأ بالهمز فلمجيء ضاهأت من قولهم امرأة ضهيأ على وزن "فعيل" وهي التي شاكلت الرجال في أنها لا تحيض ومن جعل ضهيأ على "فعلأ" بزيادة الهمزة كما في "غرقىء" لقشرة البيض السفلى لمجيء ضهياء ممدوداً بمعناه فلا ثبت في هذا الثاني عنده. ولا بد من تقدير مضاف أي يضاهي قولهم قول الذين، حذف المضاف وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعاً لفقد الجار. والمعنى أن قول هؤلاء المعاصرين للنبي من أهل الكتاب يشبه قول قدمائهم أي إنه كفر قديم فيهم غير مستحدث، أو يضاهي قول أهل الكتاب قول المشركين القائلين الملائكة بنات الله. وقيل: الضمير في { يضاهئون } للنصارى فقط أي يشاكل قول النصارى "المسيح ابن الله" قول اليهود "عزير ابن الله" لأن اليهود أقدم منهم. ثم قال على عادة محاورات العرب معجباً ومستفهماً على سبيل الإنكار { قاتلهم الله أنى يؤفكون } كيف يصرفون عن الحق أي هم أحقاء بأن يقال لهم هذا تعجباً من شناعة قولهم كما يقال القوم ركبوا شنعاء: قاتلهم الله ما أعجب فعلهم، ولمن ضل عن الطريق أين تذهب؟. ثم وصفهم بضرب آخر من الإشراك فقال { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم } قال أهل المعاني: الحبر العالم الذي يعبر عما يريد بأحسن بيان، والراهب الذي ظهرت أثار الرهبة من قلبه على وجهه ولباسه، ولكن في عرف الاستعمال اختص الأحبار بعلماء اليهود من ولد هارون. والرهبان بعلماء النصارى من أصحاب الصوامع. واختلفوا في معنى اتخاذهم إياهم أرباباً بعد الاتفاق على أنه ليس المراد أنهم جعلوهم آلهة العالم فقال أكثر المفسرين: المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم. نقل أن عدي بن حاتم كان نصرانياً فانتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ سورة براءة، فلما وصل إلى هذه الآية قال عدي: إنا لسنا نعبدهم فقال: أليس تحرّمون ما أحلّ الله وتحلون ما حرم الله؟ فقلت: بلى. فقال: فتلك عبادتهم. قال الربيع: قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ فقال: إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف قول الأحبار والرهبان فكانوا يأخذون بأقوالهم وما كانوا يقبلون حكم الله. قال العلماء: إنما لم يلزم تكفير الفاسق بطاعة الشيطان خلاف ما عليه الخوارج لأن الفاسق وإن كان يقبل دعوة الشيطان إلا أنه يلعنه ويستخف به بخلاف أولئك الأتباع المعظمين لمتبوعهم. قال الإمام فخر الدين الرازيرحمه الله تعالى: قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله في مسائل كانت تلك الآيات مخالفة لمذهبهم فيها فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها وكانوا ينظرون إليّ كالمتعجب يعني كيف الآيات مع أن الرواية عن سلفنا. وردت بخلافها، ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا سارياً في عرف الأكثرين. وقلت: ولعلهم توقفوا لحسن ظنهم بالسلف لأنهم ربما وقفوا من تلك الآي على ما لم يقف عليه الخلف. وقيل في تفسير هذه الربوبية: إن الجهال والحشوية إذا بالغوا في تعظيم شيخهم وقدوتهم فقد يميل طبعهم إلى الحلول والاتحاد، وقد يساعدهم الشيخ في ذلك إذا كان مزوّراً طالباً للدنيا وقد يرضى بسجودهم له تعظيماً وإجلالاً مع أن السجود عبادة لا تليق إلا بالله. وإذا كان هذا مشاهداً في هذه الأمة فكيف بالأمم السالفة؟! وأما المسيح فحين جعلوه ابناً لله فقد أهلوه للعبادة والإلهية، ولعل السبب في إفراد المسيح بالذكر أن قولهم فيه أشنع من قولهم في الأحبار والرهبان، أو لأن القول بإلهية المسيح مخصوص بأحد الفريقين. فلو قيل اتخذوا أحبارهم ورهبانهم والمسيح ابن مريم أرباباً لأوهم اشتراك الفريقين في اتخاذ المسيح رباً { وما أمروا } الضمير للمتخذين. والذي أمرهم بذلك أدلة العقل والكتب السماوية، وفي القرآن حكاية عن المسيح { أنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة } [المائدة: 72] ويجوز أن يكون الضمير للأحبار والرهبان أي وما أمر هؤلاء الذين هم عندهم أرباب إلا بأن يكونوا مربوبين. ثم نزه نفسه عن مقالة الظالمين فقال { سبحانه عما يشركون } ثم ذكر نوعاً آخر من قبائح أفعال أهل الكتاب وهو سعيهم في أبطال أمر محمد وجدهم في إخفاء الدلائل الدالة على صحة نبوّته فقال { يريدون أن يطفئوا نور الله } أي دينه الثابت بالدليل المشبه بالنور لاشتراكهما في الاهتداء بهما. وذلك أن دين محمد مؤيد بالمعجزات الباهرة التي بمثلها ثبتت نبوّة موسى وعيسى ولا سيما بالقرآن، وحاصل شرعه تعظيم الله وتنزيهه عما لا يليق به والانقياد لطاعته وصرف النفس عن الأمور الفانية والترغيب في السعادات الباقية، ثم إنهم بكلماتهم الركيكة وشبهاتهم السخيفة أرادوا إبطال هذه الدلائل فكانوا كمن يريد إبطال نور الشمس الذي هو أشد الأنوار المحسوسة بسبب أن ينفخ فيه. ولا ريب أن ذلك سعي باطل وكيد زاهق ولهذا قال { ويأبى الله إلا أن يتم نوره } أي لم يرد الله إلا ذلك إلا أن الإباء يفيد زيادة على عدم الإرادة وهي المنع والامتناع قال:

وإن أرادوا ظلمنا أبينا

امتدح بذلك ولا يجوز أن يمتدح بأنه يكره الظلم لأن ذلك يستوي فيه القوي والضعيف. وفيه وعد بمزيد النصرة والقوة وإعلاء الدرجة. ثم أكد ذلك المعنى بقوله { هو الذي أرسل رسوله بالهدى } أي بكثرة الدلائل والمعجزات { ودين الحق } لاشتماله على أمور تظهر لكل أحد كونه موصوفاً بالصواب ومطابقاً للحكمة ومؤدياً إلى صلاح الدنيا والآخرة. ثم بيّن غاية أمره وتمام حكمه فقال { ليظهره على الدين كله } أي ليجعل الرسول أو دين الحق غالباً على أهل الأديان كلهم أو على كل دين. عن أبي هريرة أنه قال هذا وعد من الله بأن يجعل الإسلام ظاهراً على جميع الأديان. وتمام هذا إنما يظهر عند خروج المهدي ونزول عيسى وقال السدي: ذلك عند خروج المهدي عليه السلام لا يبقى أحد إلا دخل الإسلام وأدّى الخراج. قلت: قد دخل في عصرنا من الملوك الكفرة ومن أشياعهم في الإسلام ما لا يعدّ ولا يحصى، وازدياد ذلك كل يوم دليل ظاهر على أن الكل سيدخلون في الإسلام. وقد جاء في الحديث: "زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتى ما زوي لي منها" وقيل: ليظهر الإسلام على غيره في جزيرة العرب. وهذا تخصيص أوجبه ضيق العطن. وقيل: ليظهر الرسول على جميع شرائط الدين حتى لا يخفى عليه شيء من مدارك الأحكام. وقيل ليظهره بالحجة والبرهان لأن غلبة الكفار في بعض الأقطار ظاهرة. ولقائل أن يقول: إن المسلمين في تلك البلاد وإن قلوا غالبون على الكفار وإن كثروا بدليل أنهم لا يمنعونهم من إظهار شعائر الإسلام والتزام أحكامه، قوله { هو الذي أرسل } فيه مدح منه تعالى لنفسه من جهة أنه هو القادر على إبداء مثل هذا الأمر العظيم ومن جهة أنه هو الغالب على إيصاله إلى حيث شاء وأراد من غير معاند ولا منازع، ومن جهة أنه هو المعطي لمثل هذه النعمة التي لا يوازيها نعمة وهي نعمة الهدى والإسلام. وقوله { ولو كره الكافرون } وفي الآية الثانية { ولو كره المشركون } إما متساويا الدلالة تنبيهاً على أن اليهود والنصارى أيضاً مشركون، وإما تخصيص بعد تعميم، ولعله رغم لأنف مشركي قريش ثم لما وصف رؤساء اليهود والنصارى بالتكبر والتجبر وادعاء الربوبية والترفع على الخلق أراد أن يصفهم بالطمع والحرص فقال { يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان } الآية. وفيه تنبيه على أن مقصودهم من إظهار تلك الربوبية والتجبر تحصيل حطام الدنيا. قال الإمام فخر الدين الرازيرحمه الله . ولعمري أن من تأمل في أحوال أهل الناقوس والتزوير في زماننا وجد هذه الآيات كأنها ما أنزلت إلا في شأنهم وشرح أحوالهم، فترى الواحد منهم يدعي أنه لا يلتفت إلى الدنيا ولا يعلق خاطره بجميع المخلوقات وأنه من الطهارة والعصمة مثل الملائكة المقربين حتى إذا آل الأمر إلى الرغيف الواحد تراه يتهالك ويتحمل الذل والدناءة في تحصيله. وفي قوله { كثيراً } دلالة على أن هذه الطريقة طريقة بعضهم لا كلهم، فإن العالم لا يخلو عن المحق وإطباق الكل على الباطل وإثبات ذلك كالممتنع، وهذا يوهم أنه كما أن إجماع هذه الأمة على الباطل لا يحصل فكذلك في سائر الأمم. وعبر عن أخذهم أموال الناس بالأكل تسمية للشيء باسم ما هو أعظم مقاصده. وأيضاً من أكل شيئاً فقد ضمه إلى نفسه ومنعه عن الوصول إلى غيره كما لو أخذه، ولهذا فإن من أخذ أموال الناس فإذا طولب بردها قال أكلتها وما بقيت فلا قدرة لي على ردّها. وفي تفسير الباطل وجوه: منها أنهم كانوا يأخذون الرشا في تخفيف الأحكام والمسامحة في الشرائع وفي إخفاء نعت محمد وتأويل الدلائل الدالة على نبوّته. ومنها أنهم كانوا يدّعون عند عوامهم الحمقى أنه لا سبيل إلى الفوز بمرضاة الله تعالى إلا بخدمتهم وطاعتهم وبذل الأموال في مرضاتهم، والعوام كانوا يغترون بتلك الأكاذيب. ومنها أنهم قالوا لا طريق إلى تقوية دينهم إلا إذا كان أولئك الفقهاء أقوياء عظماء أصحاب الجاه والحشمة والأموال كما يفعله المزوّرون في زماننا هذا. أما قوله { ويصدّون عن سبيل الله } فمعناه يبالغون في المنع من متابعة محمد كيلا يبطل جاههم وحشمتهم عند العوام لو أقروا بدينه.
ثم قال سبحانه { والذين يكنزون } الكنز هو المال المدفون وقد كنزه يكنزه. والتركيب يدل على الجمع ومنه ناقة كناز مكتنزة اللحم، واكتنز الشيء اجتمع. قيل: المراد بقوله { والذين يكنزون } الأحبار والرهبان لما وصفهم بالحرص الشديد، أراد أن يصفهم بالامتناع من إخراج الواجبات عن أموالهم. وقيل: المقصود مانعو الزكاة من المسلمين. ووجه النظم أنه لما كان حال من أمسك مال نفسه بالباطل كذلك فما ظنك بحال من سعى في أخذ مال غيره بالباطل والخديعة؟! عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر فقلت له: ما أنزلك هذه البلاد؟ قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب. وقلت: نزلت فينا وفيهم فصار ذلك سبباً للوحشة. فكتب إلي عثمان يشكوني فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة، فلما قدمت المدينة انحرف الناس عني كأنهم لم يروني من قبل، فذكرت ذلك لعثمان فقال: إن شئت تنحيت فكنت قريباً. قلت: إني والله لا أدع ما كنت أقول. وعن الأحنف قال: لما قدمت المدينة رأيت أبا ذر يقول: بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه. فلما سمع القوم ذلك تركوه فاتبعته وقلت: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم. فقال: ما عسى يصنع بي قريش. واختلف علماء الصحابة في هذا الكنز المذموم فقال الأكثرون: هو المال الذي لم تؤّد زكاته. عن عمر بن الخطاب: مال أديت زكاته فليس بكنز. وقال ابن عمر: كل ما أديت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وكل مال لم تؤدّ زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض. وقال جابر: إذا أخرجت الصدقة من مالك فقد أذهبت عنه شره وليس بكنز. وعن ابن عباس: قوله { ولا ينفقونها في سبيل الله } يريد الذين لا يؤدّون زكاة أموالهم. قال القاضي: ويندرج فيه سائر الحقوق من الكفارات والديون ونفقة الحج والجهاد والإنفاق على الأهل والعيال وضمان المتلفات وأروش الجنايات. وقال الأقلون: كل مال كثير فهو مذموم سواء أديت زكاته أو لم تؤد. وحجة الأولين قوله تعالى
{ لها ما كسبت } [البقرة: 286] { ولا يسألكم أموالكم } { محمد: 36] وقوله عليه السلام: "كل امرىء أحق بكسبه" "نعم المال الصالح للرجل الصالح ما أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كان باطناً، وما بلغ أن يزكى ولم يزك فهو كنز وإن كان ظاهراً" وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع من الأغنياء كعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وكان يعدّهم من أكابر المؤمنين، وقد ندب إلى إخراج الثلث أو الأقل في المرض ولو كان جمع المال محرماً لكان يأمر المريض أن يتصدق بالكل بل الصحيح في حال صحته. حجة الأقلين عموم الآية "وما روى سالم بن الجعد أنها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تباً للذهب تباً للفضة قالها ثلاثاً فقالوا له صلى الله عليه وسلم: أي مال نتخذ؟ قال: لساناً ذاكراً وقلباً خاشعاً وزوجة تعين أحدكم على دينه" . وقوله: "من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها" وتوفي رجل فوجد في مئزره دينار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كية. وتوفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال: كيتان. وعن عليّ رضي الله عنه: كل مال زاد على أربعة آلاف فهو كنز أديت منه الزكاة أو لم تؤد. ومن المعقول أن الله تعالى خلق الأموال لدفع الحاجات فإذا حصل للمرء منه ما زاد على قدر حاجته ومنع منه الغير كان مانعاً من ظهور حكمة الله ودافعاً لوجوه الإحسان إلى عبيده. وقد رام طائفة من العلماء الجمع بين القولين فقالوا: كان هذا قبل أن تفرض الزكاة، فأما بعد فرض الزكاة فالله أعدل وأكرم من أن يجمع عبده مالاً من حيث أذن له فيه ويؤدي عنه ما أوجب عليه ثم يعاقبه. وقال أهل التحقيق: النهي عن جمع المال محمول على التقوى لأن تزايد المال لا حد له يقف هنالك فينجز إلى تضييع العمر تارة في تحصيله وأخرى في حفظه، لأنه كلما ازداد المال ازدادت لذته بذلك فيشتد حرصه ولا ينقطع البتة، وقد يفضي إلى الطغيان والخذلان كقوله تعالى { إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى } [العلق: 6، 7] ولو لم يكن في الفقر سوى الانكسار وقلة التعلق وفراغ البال لكفى بها منقبة وفخراً، وكل ما يلهيك عن الله ولم يكن في سبيل الله فعدمه خير من وجوده. وأما ظاهر الفتوى فهو أن صاحب المال الكثير لا عتب عليه إذا أدّى منه حقوقه. هذا ومن حمل الآية على وعيد مانعي الزكاة في النقود قاس الزكاة في المواشي عليه. وقد ورد أيضاً في الحديث: "ما من صاحب إبل أو بقر أو غنم" وهو مشهور. ولا ريب أن الأصل المعتبر في الأموال هو النقدان، وسائر الأمتعة إنما تحصيل بهما وتدور عليهما. ولمن أوجب الزكاة في الحلي المباح الاستدلال بالآية لأن الذهب والفضة يشمله، ومن لم يوجب الزكاة فيه خصص عموم الآية بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا زكاة في الحلي المباح" ولم يصححه أبو عيسى الترمذي. وبتقدير أن يصح حملوه على اللآلىء لقوله تعالى { وتستخرجون حلية تلبسونها } [فاطر: 12] ولقائل أن يقول: لو حملنا الحلي في الحديث على اللآلىء لم تبق لقيد المباح فائدة، ثم إنه تعالى ذكر شيئين الذهب والفضة ثم قال { ولا ينفقونها } فقيل: الضمير عائد إلى المعنى وهو الكنوز أو الأموال، أو لأن كل واحد منهما جملة واحدة وافية وعدة كثيرة ودراهم ودنانير فهو كقوله { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } [الحجرات: 9] وقيل: إلى اللفظ أي ولا ينفقون الفضة. وحذف الذهب إما لأنه داخل في الفضة من حيث كونهما جوهرين ثمينين نفيسين مقصودين بالكنز فأغنى ذكر أحدهما عن الآخر كقوله { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها } [الجمعة: 11] { ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً } [النساء: 112] وإما لأن التقدير والذهب كذلك كما أن معنى قوله:

فإني وقيار بها لغريب

وقيار كذلك. ثم قال { فبشرهم بعذاب أليم } تهكماً مثل قولهم: تحيتهم الضرب وإكرامهم الشتم. ولو قيل: البشارة وهي الخبر الذي يؤثر في القلب فيتغير بسببه لون بشرة الوجه سواء كان من الفرح أو من الغم كان حقيقة { يوم يحمى عليها } معناه أن النار تحمى عليها أي يوقد عليها نار ذات حمى وحر شديد من قوله { نار حامية } [القارعة: 11] ولو قيل يوم تحمى أي الكنوز كقولك: أحميت الحديد لم يفد هذا المعنى وإنما ذكر الفعل مع أن الإحماء للنار لأنه مسند إلى الجار والمجرور بعد حذف النار كما تقول: رفعت القصة إلى الأمير. فإن لم تذكر القصة قلت: رفع إلى الأمير. { فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم } ذكر العلماء في تخصيص هذه الأعضاء بالكي وجوهاً منها. إن حصول الأموال يقصد به فرح القلب يظهر أثره في الوجه وشبع ينتفخ بسببه الجنبان ولبس ثياب فاخرة يطرحونها على ظهورهم فعورضوا بنقيض المقصود. ومنها أن هذه الأعضاء يعظم تألمها لكونها مجوّفة ولما في داخلها من الأعضاء الشريفة. ومنها أنهم يكوون على الجهات الأربع، أما من قدام فعلى الجبهة، وأما من خلف فعلى الظهر، وأما من اليمين واليسار فعلى الجنبين. ومنها أن المراد وقوع الكي على كل الأعضاء لأنها إما في غاية النظافة ومثاله الجبهة، وإما في غاية الصلابة ومثاله الظهر، وإما متوسطة ومثاله الجنبان. ومنها أن الجمال في الوجه والقوة في الظهر والجنبين والإنسان إنما يطلب المال للجمال والقوة فعورض بإزالتهما. ومنها قول أبي بكر الوراق: خصت بالذكر لأن صاحب المال إذا رأى الفقير قبض جنبيه، وإذا قعد بجنبه تباعد وتجافى عنه وولى ظهره. وأنا أقول: يحتمل أن يراد بالجباه قدام الشخص حيث لم يقدم لنفسه خير، أو بالظهور جهة الخلف حيث خلف ما أعقبه الحسرات وبالجنوب اليمين والشمال حيث لم يصرف المال في مرضاة الله وأنفقه في معصيته وسخطه وهذا بالتأويل أليق. ثم الذي جعل كياً هو كل ماله أو قدر الزكاة الظاهر أنه الكل لأنه لما لم يخرج منه الحق كان ذلك الجزء شائعاً في كل ماله فناسب أن يعذب بكل الأجزاء ثم قال { هذا ما كنزتم } والتقدير فيقال لهم هذا ما كنزتم { لأنفسكم } وفيه توبيخ وإشعار بأنهم عورضوا بنقيض ما قصدوا وأكد ذلك بقوله { فذوقوا ما كنتم تكنزون } ما مصدرية أو موصولة والمعنى اعرفوا وبال كونكم كانزين، أو ذوقوا وبال المال الذي كنتم تكنزونه.
ثم ذكر نوعاً آخر من قبائح أعمال اليهود والنصارى والمشركين فقال { إن عدّة الشهور } الآيتان وذلك أنه تعالى لما حكم في كل وقت بحكم خاص فإذا غيروا تلك الأوقات بسبب النسيء والكبيسة كان ذلك سعياً منهم في تغيير حكم الله بحسب الهوى فكان ذلك زيادة في كفرهم. واعلم أن المعالم الشرعية كلها منوطة بالشهور القمرية الهلالية لقوله سبحانه
{ قل هي مواقيت للناس والحج } [البقرة: 189] والسنة القمرية. عبارة عن اثني عشر شهراً قمرياً بدليل قوله تعالى { إن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً } قال أبو علي الفارسي: لا يجوز أن يتعلق قوله { في كتاب الله } بقوله { عدّة الشهور } للفصل بالأجنبي وهو الخبر أعني اثنا عشر. فقوله { في كتاب الله } و { يوم خلق } الثاني بدل من الأول وهو من عند. والتقدير إن عدّة الشهور عند الله في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض. وفائدة الإبدالات تقدير الكلام في الأذهان لأنه يعلم منه أن ذلك العدد واجب عند الله وثابت في عمله في أول ما خلق الله العالم. ويجوز أن يكون { في كتاب الله } صفة اثنا عشر أي اثنا عشر شهراً مثبتة في كتاب الله وعلى هذا لا يجوز أن يراد بالكتاب كتاب من الكتب لأن { يوم } متعلق به ولا تتعلق الظروف بأسماء الأعيان. لا يقال: غلامك يوم الجمعة بل الكتاب يكون مصدراً بمعنى المفعول أي فيما أثبته في ذلك اليوم اللهم إلا إذا قدر الكلام هكذا. إن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً مكتوباً في كتاب الله يوم خلق. قال ابن عباس: هو اللوح المحفوظ. وقيل: القرآن. { منها أربعة حرم } ثلاثة سرد أي مسرودة ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وواحد فرد وهو رجب { ذلك الدين القيم } يعني أن تحريم الأشهر الحرم الدين المستقيم الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل وقد توارثته العرب منهما، وكانوا يعظمونها ويحرّمون القتال فيها حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو أخيه تركه { فلا تظلموا فيهن } أي في الأشهر الأربعة { أنفسكم } بأن تجعلوا حرامها حلالاً. عن عطاء قال: تالله ما يحل للناس أن يغزو في الحرم ولا في الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا وما نسخت. وعن الحسن مثله لأنه فسر الدين القيم بأنه الثابت الدائم الذي لا يزول. وعن عطاء الخراساني: أحلت القتال في الأشهر الحرم { براءة من الله ورسوله } وقيل: معناه لا تأثموا فيهن بياناً لعظم حرمتهن كما عظم أشهر الحج بقوله { فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق } [البقرة: 197] والسبب فيه أن لبعض الأوقات أثراً في زيادة الثواب أو العقاب كالأمكنة، وكانت الحكماء يختارون لإجابة الدعاء أوقاتاً مخصوصة. وفيه فائدة أخرى هي أن الإنسان جبل مطبوعاً على الظلم والفساد، ومنعه من ذلك على الإطلاق شاق عليه فخص بعض الأزمنة والأمكنة بطاعة ليسهل عليه الإتيان بها فيهما ولا يمتنع عن ذلك. ثم لو اقتصر على ذلك فهو أمر مطلوب في نفسه وإن جره ذلك إلى الاستدامة والاستقامة بحسب الإلفة والاعتياد أو لاعتقاده أن الإقدام على ضد ذلك يبطل مساعيه السالفة فذلك هو المطلوب الكلي. ولا ريب أن تخصيص ذلك من الشارع أقرب إلى اتحاد الآراء وتطابق الكلمة. وقيل: الضمير في قوله { فيهن } عائد إلى { اثنا عشر } والمقصود منع الإنسان من الإقدام على الفساد مدة عمره، أو المراد المنع من النسيء على ما يجيء. قال الفراء: الأولى رجوع الضمير إلى الأربعة لقربها ولما ذكرنا أن لهذه الأشهر مزيد شرف، فناسب أن تخص بالمنع من الظلم، ولأن العرب تختار فيما بين الثلاثة إلى العشرة ضميراً الجماعة، وفيما جاوز العشرة وهو جمع الكثرة تختار ضمير الوحدة. قال حسان:

لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

ويقال: لثلاث خلون من شهر كذا ولإحدى عشرة ليلة خلت. ثم قال عز من قائل { وقاتلوا المشركين } وظاهر الآية يدل على إباحة القتال في جميع الأشهر لأن الأمر الوارد عقيب الحرمة يدل على الإباحة. ومعنى { كافة } جميعاً لأنهم إذا اجتمعوا تزاحموا فكف بعضهم بعضاً. ونصبه على المصدر عند بعضهم لأنه مثل العاقبة والعافية. وقال الزجاج: نصبه على الحال. ولا يجوز أن يثنى ويجمع ويعرف باللام كقولك: قاموا معاً وقاموا جميعاً. وفي وجه التشبيه في قوله { كما يقاتلونكم كافة } قولان: فعن ابن عباس: قاتلوهم بكليتهم ولا تحابوا بعضهم بترك القتال كما أنهم يستحلون قتال جميعكم. وقيل: قاتلوهم بأجمعكم غير متفرقين في مقاتلة الأعداء ومقابلتهم. فعلى الأول يكون { كافة } حالاً من المفعول وعلى الثاني يكون حالاً من الفاعل وفي قوله { واعلموا أن الله مع المتقين } حث لهم على التقوى وعلى الجهاد بضمان النصر والمعونة. ثم فسر الظلم المنهى عنه في الآية المتقدمة وأكد النهي عنه بقوله { إنما النسيء } وهو مصدر نسأ إذا أخر كالنذير والنكير. وقال قطرب: أصله الزيادة من قوله: نسأت المرأة إذا حبلت لزيادة الولد فيها. وردّ بأنه يقال لها ذلك فيؤول لتأخر حيضها. وقيل: هو معنى منسوء كقتيل بمعنى مقتول. واعترض بأن المؤخر هو الشهر المعنى إلى أن الشهر زيادة في الكفر وهذا الحمل غير صحيح. ويمكن أن يجاب بأن المراد أن العمل الذي بسببه يصير الشهر الحرام مؤخراً زيادة في الكفر. احتج الجبائي ههنا بأن الكفر يقبل الزيادة فكذا الإيمان. وأيضاً أطلق الكفر على هذا العمل فتركه يكون إيماناً فلا يكون الإيمان مجرد الاعتقاد والإقرار. وأجيب بأن الزيادة راجعة إلى الكمال وإنما سمي هذا العمل كفراً لأنه يؤول إلى اعتقاد تحليل ما هو حرام وبالعكس. وفي قوله { يضل به الذين كفروا } بحث مشهور بين المعتزلة وغيرهم أن إسناد الإضلال إلى الله تعالى بالمجاز أو بالحقيقة وقد مر مراراً. قوله { يحلونه عاماً } الضمير فيه عائد إلى النسيء. قال الواحدي: أي يحلون التأخير عاماً وهو العام الذي يريدون أن يقاتلوا فيه في الشهر الحرام. ويحرّمون التأخير عاماً آخر وهو الذي يتركون فيه الشهر الحرام على تحريمه. قال المفسرون: إنهم كانوا أصحاب حروب وغارات وكان يشق عليهم مكث ثلاثة أشهر متوالية من غير قتل وغارة، فإذا اتفق لهم في شهر منها أو في المحرم حرب وغارة أخروا تحريم ذلك الشهر إلى شهر آخر. قال الواحدي وأكثر العلماء: على أن هذا التأخير كان من المحرم إلى صفر. ويروى أنه حدث ذلك في كنانة لأنهم كانوا فقراء محاويج إلى الغارة، وكان جنادة بن عوف الكناني مطاعاً في قومه وكان يقوم على جمل في الموسم فيقول بأعلى صوته: إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه. ثم يقوم في القابل فيقول: إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرّموه. والأكثرون على أنهم كانوا يحرمون من جملة شهور العام أربعة أشهر وذلك قوله { ليواطئوا عدّة ما حرم الله } أي ليوافقوا العدة التي هي الأربعة ولا يخالفوا ولم يعلموا أنهم خالفوا ترك القتال ووجوب التخصيص وذلك قوله تعالى { فيحلوا ما حرم الله } أي من القتال وترك الاختصاص. قال أهل اللغة: يقال تواطأ القوم على كذا إذا اجتمعوا عليه كأن واحد منهم يطأ حيث يطأ صاحبه. والإيطاء في الشعر من هذا وهو أن يأتي في القصيدة بقافيتين لفظهما ومعناهما واحد. قال ابن عباس: إنهم ما أحلوا شهراً من الأشهر الحرم إلا حرموا مكانه شهراً آخر من الحلال، ولم يحرموا شهراً من الحلال إلا أحلوا مكانه شهراً آخر من الحرام لأجل أن تكون عدة الحرم أربعة مطابقة لما ذكره الله تعالى فهذا هو المراد بالمواطأة. وللآية تفسيراً آخر وهو أن يكون المراد بالنسيء كبس بعض السنين القمرية بشهر حتى يلتحق بالسنة الشمسية، وذلك أن السنة القمرية أعني اثني عشر شهراً قمرياً هي ثلثمائة وأربعة وخمسون يوماً وخمس وسدس من يوم على ما عرف من علم النجوم وعمل الزيجات، والسنة الشمسية وهي عبارة عن عود الشمس من أية نقطة تفرض من الفلك إليها بحركتها الخاصة ثلثمائة وخمسة وستون يوماً وربع يوم إلا كسراً قليلاً، فالسنة القمرية أقل من السنة الشمسية بعشرة أيام وإحدى وعشرين ساعة وخمس ساعة تقريباً، وبسبب هذا النقصان تنتقل الشهور القمرية من فصل إلى فصل فيكون الحج واقعاً في الشتاء مرة وفي الصيف أخرى، وكذا في الربيع والخريف، فكان يشق الأمر عليهم إذ ربما كان وقت الحج غير موافق لحضور التجار من الأطراف فكان يختل أسباب تجاراتهم ومعايشهم فلهذا السبب أقدموا على عمل الكبيسة بحيث يقع الحج دائماً عند اعتدال الهواء، وإدراك الثمار والغلات وذلك بقرب حلول الشمس نقطة الاعتدال الخريفي، فكبسوا تسع عشر سنة قمرية بسبعة أشهر قمرية حتى صارت تسع عشرة سنة شمسية فزادوا في السنة الثانية شهراً ثم في الخامسة ثم في السابعة ثم في العاشرة ثم في الثالثة عشرة ثم في السادسة عشرة ثم في الثامنة عشرة، وذلك ترتيب بهر يحوج عند المنجمين، وقد تعلموا هذه الصفة من اليهود والنصارى فأنهم يفعلون هكذا لأجل أعيادهم، فالشهر الزائد هو الكبس وسمي بالنسيء لأنه المؤخر والزائد مؤخر عن مكانه، وهذا التفسير يطابق ما روي أنه صلى الله عليه وسلم خطب في حجة الوداع وكان في جملة ما خطب به: "ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" والمعنى رجعت الأشهر إلى ما كانت عليه وعاد الحج في ذي الحجة وبطل النسيء الذي كان في الجاهلية. وقد وافقت حجة الوداع ذا الحجة في نفس الأمر فكانت حجة أبي بكر قبلها وفي ذي القعدة التي سموها ذا الحجة. وإنما لزم العتب عليهم في هذا التفسير لأنهم إذا حكموا على بعض السنين بأنها ثلاثة عشر شهراً كان مخالفاً لحكم الله بأن عدّة الشهور اثنا عشر شهراً أي لا أزيد ولا أنقص وإليه الإشارة بقوله { ذلك الدين القيم } على هذا التفسير. ويلزمهم أيضاً ما لزمهم في التفسير الأول من تغيير الأشهر الحرم عن أماكنها، فيجوز أن تكون الإشارة إلى المجموع. ومعنى قوله { يحلونه عاماً } أي يحلون النسيء في عام الكبس ويحرمونه عاماً أي في غير سنة الكبس. ومعنى قوله { ليواطؤا عدّة ما حرم الله } ما روي أنه كان يقوم في الموسم منهم خطيب ويقول: أنا أنسىء لكم في هذه السنة شهراً وكذا أفعل في كل سنين أقبلت حتى يأتي حجكم وقت الإدراك فينسىء المحرم ويجعله كبيساً. ثم إنه متى انتهت النوبة إلى الشهر الحرام فتكرر حرم عليهم واحداً برأيه وعلى وفق مصلحتهم، وأحل الآخر وباقي في الآية قد مر في تفسير مثله مراراً والله تعالى أعلم.
التأويل: { قاتلوا } النفوس { الذين لا يؤمنون بالله } بتعبده { ولا باليوم الآخر } أي لا يعملون للآخرة { ولا يحرمون ما حرم الله } من حب الدنيا فإنها رأس كل خطيئة { وحرم } { رسوله } على نفسه { ولا يدينون دين الحق } أي لا يطلبون الحق { من الذين أوتوا الكتاب } من النفوس الملهمة بالواردات الربانية { حتى يعطوا الجزية } وهي معاملتها على خلاف طبعها { عن يد } عن حكم صاحب قوة وهو الشارع (وقالت يهود النفس أن عزير) القلب { ابن الله } وذلك إذا انعكس عن مرآه القلب آثار أنوار الواردات إلى النفس المظلمة فتنورت، كما أن اليهود لما سمعت التوراة والعلوم التي هم عنها بمعزل من عزير قالوا إنه ابن الله (وقالت نصارى) القلوب إن مسيح الروح ابن الله، وذلك أن الروح ربما يتجلى للقلب في صفة الربوبية والخلافة مقترناً بصفة إبداع الحق وبتشريف إضافة
{ ونفخت فيه من روحي } [الحجر: 29] { يضاهئون قول الذين كفروا من قبل } وهم النفوس الكافرة الذين { اتخذوا أحبارهم } أي قلوبهم { ورهبانهم } أي أرواحهم { أرباباً } والمسيح ابن مريم وهو الخفي وذلك أن الخفي هو أول مظهر للفيض الإلهي الذي منه التربية ثم الروح ثم القلب ثم النفس ثم القالب. فالنفس من قصر نظرها ترى التربية من القالب، ثم يرتقي نظرها إلى أن ترى التربية من القلب، ثم يرتقي نظرها إلى أن ترى الكل من الحق فإن رؤية ذلك من شأن القلب كقوله { ما كذب الفؤاد ما رأى } [النجم: 11] { يريدون } أي النفوس { أن يطفئوا نور الله } الذي رش على الأرواح في بدء الخلق { بأفواههم } أي بأفواه استيفاء الشهوات واللذات الجسمانيات { هو الذي أرسل رسوله } وهو النور المرشش بالهداية إلى الله وطلب الحق { ليظهره } في طلب الحق على طلب غيره { إن كثيراً } من أحبار القلوب ورهبان الأرواح { ليأكلون } أي يتمتعون بحظوظ النفس وهواها { والذين يكنزون الذهب والفضة } حرصاً وطمعاً في الاستمتاع بحظوظ النفوس { ولا ينفقونها في سبيل الله } ليقطعوا مسافة البعد عن الله بقدمى ترك الدنيا وقمع الهوى { يحمى عليها في نار جهنم } الحرص { فتكوى بها } جباه القلوب والأرواح لأنهم امتنعوا بذلك عن التوجه إلى الحق { وجنوبهم } حيث لا تتجافى جنوبهم عن مضاجع المكونات { وظهورهم } حيث لم يقضوا حق التواضع والخشوع فيقال لهم { هذا } الذي أصابكم من ألم الحرمان وعذاب القطيعة بسبب { ما كنزتم } { فذوقوا } الآن ألم كي نار الحرص لأنكم لم تذوقوه في الدنيا حيث كنتم في منام الغفلة { منها أربعة حرم } فيه إشارة إلى أن الطالب المضطر إلى تحصيل قوت نفسه وعياله يجب أن يجعل أوقات عمره أثلاثاً: ثلثاً لطلب المعاش وترتيب مصالح الدنيا، وثلثاً للطاعات التي ينتفع بها في الآخرة، وثلثاً من ذلك حرام أن يقع في خاطره غير المولى. ومن استغنى عن الموانع فيحرم عليه صرف لحظة في غير طلب الحق وإلى هذا المعنى أشار بقوله { ذلك الدين القيم } وفيه تنبيه على أن من لم يكن هكذا كان في سلوكه اعوجاج. ثم ذكر أن من شأن النفوس المشركة أنها إن أقبلت على طاعة أخرتها عن وقتها وهو النسيء الموجب لازدياد كفرها لأنها قد خالفت الشرع من حيث تركها الطاعة باختيارها، ومن حيث إنها اعتقدت أن ذلك التأخير مما لا بأس به.